لاحقا لمقالتي المنشورة في ايلاف الغالية يوم 26 حزيران
غادرت مطار " اورلي " متّجها& الى مدينة النور غير اني لم أر نورا يسطع انما عبارة عن جلبة وصخب جماهيري وهرج ومرج تقوم به الجالية الايرانية ومن تعاطف معها وكلما مددت عنقي من نافذة الحافلة لاستطلع النظر في جانبي الطريق ألمح لافتات بالفرنسية والفارسية وحتى العربية تندد بنظام الشاه وتلهب المشاعر مع كلمات الترحيب ايضا بالسيد الخميني الذي احتوته السيارات السود الديبلوماسية وأخذته رأسا الى منتجعه ومقر اقامته في " نوفيلا شاتو " الضاحية الجميلة التي تبعد عن باريس قرابة 25 كم دون ان يلوّح بيده تحيةً للجماهير العريضة التي ترقبت وصوله وأظنه كان يخشى الحكومة الفرنسية التي وعدها بالاّ يقوم بايّ تماسّ مع الجماهير وخوفا من ان يُفسَّر مايقوم به بأنه لم يفِ بوعده حينما تمّ قبوله لاجئا سياسيا
بينما كان الايرانيون ومن تضامن معهم يملأون باريس صخبا تهليلا لبداية الثورة العارمة التي اكتسحت بلاد فارس كلها ، كنت ارى اقبية المترو وممراته متخمة بالشعارات المؤيدة ولايكاد يخلو حائط او لوحة اعلانات من الاشارة الى الانتفاضة الايرانية اضافة الى الدور الكبير الذي قامت به الصحافة الفرنسية في ابداء المزيد من التعاطف تجاه التحرك الايراني الشعبي& وبالاخص الصحف اليسارية كجريدتي& اللومانتيه والليبراسيون مع ان البون يبقى شاسعا بين رؤى اليسار وبين الثيوقراط وحذت حذوهما بقية الصحف اليمينية والليبرالية في تسليط الضوء على كل ماكان يجري في ايران والانجذاب الملحوظ نحو الحراك المنتفض في الشارع الايراني والنقد اللاذع للسلطة الرسمية التي قابلت التظاهرات والاحتجاجات بالعنف والعنجهية الشاهنشاهية المعروفة كما كتبت صحيفة الفيغارو المعروفة بميلها الواضح الى اليمين
لم تهدأ الجالية الايرانية في باريس ابدا رغم ان قائدهم انزوى بعيدا في منتجعه وتركهم يملأون باريس هرجا ومرجا وكلهم من الطلبة الدارسين هناك ومن الطبقات المسحوقة العاملين الجائلين في بيع الصحف ونشر الدعايات والإعلانات والمهن الخدمية في الفنادق والمطاعم وسقاة المقاهي وعمال النظافة وغيرها من الاعمال الرثّة وأتذكر اني قابلت احدهم في موقع شغلهِ كان يعمل على نزع المسامير من الخشب العتيق بمهارة لاتوصف حتى انه كان يُسبق لمحَ ناظريّ الى يديه بحيث كانت حركاته اسرع من بصَري وقد أستأذنني بالخروج& للتظاهر تضامنا مع اهله وهو يقول لي واثقا ان الشاه مخلوع لامحالة في ظرف لايزيد على ثلاثة شهور على اكثر تقدير وكنت استمع اليه هازئا غير مصدّق لكن حدس هذا الفتى لم يخبْ وكم دهشت بعد عودتي حينما سمعت خبر مغادرة الشاه طهران في 16/ يناير من العام 1979& الى غير رجعة وهو لايدري اين يذهب والى ايّ مقام سيحلّ ؛ طائرا بين المغرب ومصر التي قبلتْه ليقيم في اراضيها بعد ان رفضته حليفته الناكرة الجميل الولايات المتحدة رغم امتلاكه قصورا وضياعا فيها وبعدها بايام قليلة عاد السيد الخميني عودة الفاتحين المنتصرين في الاول من فبراير من نفس العام وحطّت طائرته في مطار طهران في مشهد استقبال لم يُرَ مثيله في الزهو بالنصر والترحاب الذي فاق التصوّر
يجدر بي ان انوّه انني لم ألمس وانا هناك اية مظاهر تضامنية من العرب المقيمين في العاصمة الفرنسية لما كان يجري في عموم ايران ولم أر اية مشاركة منهم للوقوف مع الايرانيين المحتجين مع انهم اكثرية وذوو ثقل في اعدادهم وخاصة ابناء المغرب العربي والمشرق العربي على العكس من الاجانب غير العرب المقيمين بباريس والفرنسيين الذين ابدوا تضامنا ملحوظا مع اقرانهم الايرانيين
من المنغّصات والصدمات التي أحزنتني ايضا خلال وجودي في مدينة النور الذي لم يسطع في وجهي منذ بدء رحلتي هو الموت المفاجئ للفنان الجميل الراقي الذي احبّه حبا جمّا " جاك بريل " في التاسع من اكتوبر / 1978خلال وجودي هناك رأيت وانا اجول وسط باريس مظاهر الحزن والأسى الشديدين& لهذا الفنان الشاعر والممثل والمخرج السينمائي المتعدد المواهب وكيف كان الفرنسيون يواسون بعضهم بعضا عناقا وبكاءً يصل احيانا الى حدّ النحيب ويعزّون كلّ من يصادفونه رغم انه لم يكن فرنسيا منبتا ومحتدا لكنه ظلّ طوال حياته يكتب اغانيه بنفسه باللغة الفرنسية التي عشقها الى حدّ الوله ويضفي عليها ألحانا من ابتكاراته الابداعية وقد خرجت باريس كلها تشيّعه بجهشات البكاء الى مثواه الاخير ، هذا المشهد الجنائزي الحزين لموت بريل كان يذكّرني بيوم رحيل العندليب الاسمر عبد الحليم حافظ وتشييعه المهيب في القاهرة وحالات الهوس والصدمة ومحاولات الانتحار التي صاحبتها
لكن الاكثر ايلاما وتقزّزا ماشاهدته قبيل مغادرتي باريس ببضعة ايام حيث تراكمت أكوام النفايات واكياس الزبالة وغمرت كل الارصفة حتى امتدّت في بعض الامكنة الى قسم من اطراف الشوارع الضيقة كل ذلك بسبب اضراب عمال النظافة مطالبين بزيادة اجورهم وتحسين اوضاعهم المعيشية وكأنّ السهرة الباهرة التي قضّيتها في مسرح الليدو بالشانزلزيه بمعية اجمل الوصلات الراقصة على انغام السامبا والاصوات الغنائية الآتية من البرازيل والتي سحرت الاسماع والقلوب وشارع الشانزلزيه الذي& قد زها وانتشى وتلوّن باجمل الالوان ولبس حلّته الآسرة احتفاءً بزيارة ملكة الدانمارك واستقبالها الاستقبال اللائق اذ صادف زيارتها خلال وجودي ، هذه المظاهر الجمالية والسهرة الآسرة التي استمتعت بها في " الليدو "& قد شردت كلها من اعماقي هاربةً بسبب هذه الحال الوسخة التي آلت اليه العاصمة الغنّاء ، حقا كانت باريس الباهرة حينها عبارة عن مكبٍّ هائل من النفايات وقد ملأت الارصفة قذارة ورائحة لاتحتمل مع ان هذا الاضراب قد دام ليوم واحد فقط لكنه جعل الحياة في مدينة النور تراكماتٍ من الاوساخ التي لاتطاق سواء من مناظرها الكريهة أو انبعاثاتها التي تزكم الانوف
ظلّ النحس يرافقني أنّى اتجهت ، وأيّ سوء طالع أرى حتى عند زيارتي لمتحف اللوفر بصحبة رفيقتي الشامية التي تتقن الفرنسية فقد بكيت كثيرا حينما أطلت النظر الى لوحة الحرية لديلاكروا ولم تنفع معي كلّ توسلاتها لمغادرة هذه اللوحة الضخمة التي فعلت فعلها بأوصالي المرتجفة وجعلت دموعي تنهمر مدرارا وتحاملت على نفسي اخيرا واستعدت رباطة جأشي وأقول لرفيقتي اني مشوقٌ لرؤية جناح حضارة وادي الرافدين في المتحف وتشتدّ بي الرغبة لأرى مسلة حمورابي وصحبتني الى هناك وكم كانت صدمتي طاغية حين منعنا من مشاهدتها اذ كانت الابواب مغلقة الى مكان مكمنها لكنها لم تيأس وأسرّت لي انه يمكن مشاهدتها للوفود الزائرة خاصة ولبعض المسؤولين النخبة الزائرين ويمكننا الاندساس بينهم وهذا ماحصل فعلا بعد طول انتظار وقد تكون رؤية هذه المسلة التي جئَ بها من بلاد فارس بعد ان سرقت اثناء غزو بابل هي الحصيلة الوحيدة المثمرة التي حزت عليها امام كل هذه العقبات والعثرات الجسام التي صاحبتني في زيارتي الاولى لباريس النور لكن هذا النور اضحى نارا لاسعة تتبعني أينما اتجهت وحيثما حللت&

[email protected]

&