عاش المغرب خلال الفترة الممتدة بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كثيرا من مظاهر الاضطرابات الاجتماعية والسياسية الوطنية والدولية؛ ويمكن تحديد بعض ملامحها في ضعف السلطة الوطنية التي أدت إلى غياب القدرة على تأطير المواطنين والتحكم في الإدارة الترابية لجهات كثيرة في المغرب، وساعد ذلك في تقوية شوكة الفتن الداخلية واندلاع حروب أهلية داخلية بين قبائل وجماعات فيما بينها من جهة (محاصرة بني مطير لسلا)، وفيما بينها وبين السلطة المركزية من جهة ثانية (تمرد قبائل زعير)، هذه القلاقل عرضت الاستقرار الاجتماعي والسياسي الوطني لضرر جسيم، وساهمت في بروز فتن وحركات احتجاج أو مطالبة بالحكم بدل الملوك الشرعيين (بوعزة الهبري، بوحمارة، الريسوني)، هذه الفتن ما كان لها أن تقوى لولا فساد الإدارة المغربية ومن أمثلته طغيان الحاجب باحماد، وفساد رجال السلطة، والاتجار في المناصب المخزنية، وبيعها وتولية غير المستحقين عليها، فضاعف من مظاهر التخلف الوطني في كل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وغيرها؛ كما استفحل الوضع نتيجة الآثار المترتبة على بعض الكوارث المناخية والطبيعية والأوبئة التي ابتليت بها البلاد (الكوليرا، الجفاف، الزلازل)؛ ونتيجة الهزائم التي مني بها المغرب أمام القوى الاستعمارية التي كانت تتربص به وتستفزه، كحرب إيسلي وحرب تطوان.
&وكان من نتائج هذا الوضع، خضوع المغرب لضغوطات استعمارية قوية أدت إلى بتر أجزاء من البلاد (احتلال الجزر الجعفرية، التوغل في الجهة الشرقية، توسيع منطقة النفوذ في سبتة ومليلية)؛ وفرض غرامات مالية ضخمة ورسوم وفوائد قروض مالية (تغريم المغرب 100 مليون بسيطة)؛ وإكراه المغرب على إبرام اتفاقيات وفتح المجال أمام التجارة الدولية (اتفاقية صلح 1844، اتفاقية للامغنية 1845، اتفاقية صلح اسبانية 1860، اتفاقية إنشاء ميناء صيد في الجنوب لفائدة الأوروبيين).
&
الإصلاح من المطالبة إلى المحاولة إلى الفشل
&هذه الأوضاع والنتائج كشفت عن ضعف كبير للدولة المغربية في تدبير الشأن الداخلي الاجتماعي والاقتصادي، وفي مواجهة الأطماع الاستعمارية، وعن تخلفها الكبير في طرق تدبير الحرب أو التفاوض وإدارة السلام أيضا..
&لم يطرح موضوع الإصلاح في المغرب المعاصر إلا بعد الاصطدام بأوربا من خلال هزيمة المغرب أمام فرنسا في معركة إيسلي سنة 1844، حيث بدأ الجميع يقترح وصفات لإنقاذ البلاد وحمايتها من المؤامرات التي تحيكها ضدها القوى الاستعمارية، بعدما تأكد لهم أن الأنظمة العتيقة في الجيش وفي الدولة لم تعد مجدية إزاء التقدم الأوربي الحديث، وتكون في نفوس القادة شعورهم بالحاجة إلى التجديد وتحري وسائل النهوض. ودعا عدد من العلماء إلى إصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية..."&
وقد كان من العلماء الذين نادوا بضرورة إصلاح أوضاع المغرب بالاستفادة من منجزات الحضارة الأوربية الحديثة العالم العربي المشرفي والشيخ إبراهيم التادلي والعالم محمد الكردودي الفاسي، فقد نوه المشرفي بالمبتكرات الأوربية وأكد أن فيها مصلحة للمسلمين، ونادى التادلي بتعليم اللغات الأجنبية الحية، أما الكردودي فقد ألف رسالة بعنوان" كشف الغمة ببيان أن حرب النظام حق على هذه الأمة" أكد فيها على ضرورة إصلاح النظام السياسي المغربي وإنشاء دولة المؤسسات.&
&فالسياق التاريخي لتبلور فكرة الإصلاح بالمغرب، يؤكد أن الفكرة لم تكن ثمرة تطور داخلي عرفه المجتمع المغربي في شتى مناحي الحياة، بل إن مشروع الإصلاح لم يجد مكانه ضمن اهتمامات النخبة السياسية والثقافية إلا بعد الاصطدام بالأجنبي والإحساس بالضعف أمام الآخر (أوروبا) القوي عسكريا وسياسيا اقتصاديا وثقافيا.
&واستجابة لهذه الدعوات، قامت السلطات المخزنية بجملة من المبادرات الإصلاحية كان أهمها في عهد السلطانين محمد بن عبد الرحمان "محمد الرابع" (1859-1873) والحسن الأول (1873-1894) وشملت مجالات عديدة.&
وكانت الإصلاحات العسكرية أهم المجالات التي استقطبت الاهتمام وحظيت بالعناية، فلأجل تكوين جيش نظامي حديث متخصص في الحرب يتقاضى رواتب شهرية، يغني الدولة عن الاعتماد على تطوع المجاهدين والقبائل، استقدم السلطان الحسن الأول ضباطا مؤطرين أجانب من انجلترا وفرنسا للإشراف على تكوين هياكل الجيش المغربي وتدريب الجنود على استعمال الأسلحة العصرية المستوردة، كما تضمن هذا الإصلاح إحياء الأسطول البحري، كما تم إنشاء معامل لصناعة السلاح بمراكش وفاس (البارود، البنادق،...).
&وفي إطار الإصلاحات العسكرية كذلك، أمر السلطان بتوجيه بعثات طلابية إلى الخارج، رغم أن عددا منها اهتم بمجالات مدنية، هذه البعثات كانت على نفقات المخزن وتوجهت إلى جبل طارق وانجلترا وفرنسا واسبانيا وايطاليا وبلجيكا وألمانيا.&
&ففي المجال الإداري تم تطوير أجهزة أدوات المخزن مركزيا وإقليميا، فعلى الصعيد المركزي، أنشئت الوزارة على شكل ديوان حكومي بالمعنى الحديث، حيث أنشئ مجلس وزراء مسؤول أمام السلطان، يتألف أساسا من الصدر الأعظم (الوزير الأول)، وزير البحر (وزير الخارجية)، العلاف الكبير (وزير الدفاع)، وزير الشكايات (وزير العدل)، أمين الأمناء (وزير المالية). بينما على صعيد الأقاليم حرص السلطان الحسن الأول على الخصوص، على تعميم التأطير الإداري لكل التراب المغربي وملأ الفراغ الإداري الذي كانت تعرفه بعض المناطق.&
بينما استهدف الإصلاح الاقتصادي والمالي إنشاء بعض المصانع (معمل لصناعة السكر وآخر لصناعة القطن بمراكش في عهد السلطان محمد الرابع) باستثمار مباشر من الدولة، هذا في الوقت الذي كان فيه العالم الرأسمالي يشهد تحولات تقنية وعلمية واقتصادية كبرى بفضل جهود واستثمارات فئات اجتماعية فاعلة ونشيطة (البرجوازية والنبلاء المنفتحون).&
&كما تضمن تجديد العملة المغربية في عهد السلطانين محمد الرابع والحسن الأول وإصلاح الجمارك والنظام الجبائي في عهد السلطان الحسن الأول من خلال سن ضريبة "الترتيب" التي أرادها أن تعوض كل الجبايات القديمة وتعمم على كل المناطق والقبائل والفئات الاجتماعية بمن فيهم المحميون، لكن هذا الإصلاح لم يطبق بفعل معارضة العلماء (اعتبروا الضريبة مخالفة للشرع) ورفض المستفيدين من النظام الجبائي القديم.&
&ولم يستثن الميدان التعليمي من الإصلاح أيضا، فإلى جانب توجيه العناية للبعثات الطلابية للخارج، برز الاهتمام بإدخال تدريس بعض العلوم من رياضيات وفلك وهندسة، بفاس وطنجة ومراكش ومكناس، لكن هذه الإصلاحات التعليمية المحدودة تعكس كون الاهتمام بالتعليم كان ضعيفا.&
&
فشل الإصلاح
&استهدف المشروع الإصلاحي تحديث البنيات الإدارية والعسكرية والاقتصادية والثقافية للبلاد وتأهيلها لمواجهة الضغوط الخارجية، لكن الوقائع التاريخية تشهد على فشل المشروع، فقد ظل الجمود والتخلف يطبع كل مجالات الحياة في مغرب النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، والضغوط الخارجية لم تتوقف بل تزايدت حدتها ونجحت في إضعاف البلاد وتوجت بوضعها تحت الحماية الفرنسية في مارس 1912.&
&إن هذا الفشل لم تقتصر مضاعفاته على المرحلة التاريخية التي تم فيها، بل تجاوزته وظل حاضرا بقوة في رسم مصير ومستقبل البلاد في كل الفترات اللاحقة.
&وفي إطار الإجابة على سؤال حول سبب هذا الإخفاق أرجع البعض ذلك إلى التدخل الخارجي الذي حمله مسؤولية إضعاف الدولة المغربية وتجريدها من كل المقومات السياسية والاقتصادية والمالية الضرورية لإنجاح التحديث (خاصة إنجلترا وفرنسا وإسبانيا)، وفي مقابل ذلك فسر فريق آخر إخفاق المشروع الإصلاحي لمغرب القرن التاسع عشر بالعوامل الداخلية التي حددها في كون المشروع الإصلاحي كان في حد ذاته سطحيا ولم يمس جوهر المؤسسات والهياكل القائمة وقتئذ، أضف الى ذلك كون المشروع لقي معارضة شديدة من لدن بعض القوى والفئات الاجتماعية المحافظة والتقليدية من علماء وأعيان ورجال الدولة وملاكين كبار..&
&يرى جرمان عياش أن فشل هذه التجربة الإصلاحية سببه غياب أي اقتران بين الحركة الإصلاحية والتقدم العلمي والفكري، فدعوى التشبث بالأصول أغرقت المجتمع المغربي والدولة المغربية في ظلمات التخلف الفكري والمادي "إن فكرة التقدم كانت أساس ومنطلق النهضة الاقتصادية والفكرية والتطور السياسي والاجتماعي الذي عرفته أوربا، أما مغاربة القرن التاسع عشر فأين هم من هذه الفكرة التي لابد منها لمن شرع في الخروج ببلاده وأهله من الجمود والتخلف؟"&
&إلى جانب ذلك ساهم في إفشال الإصلاح غياب فئة اجتماعية قوية تساند عملية التحديث والإصلاح، فتدابير الإصلاح التي بادرت بها الدولة كانت قرارت فردية للسلطان، بخلاف ما حصل في دول أوروبا، حيث كان النبلاء والبرجوازية قائدين للتحديث متحمسين له. وهو الأمر الذي التفت إليه الحجوي بذكائه الثاقب، وأكده خلال حديثه عن فشل إصلاحات السلطان المولى عبد العزيز، قال الحجوي: (وبالجملة كان ملكا غيورا هماما، إلا أنه لم يجد معينا، ولم يكن لديه وزراء متنورون عارفون بالأحوال لعدم وجود المدارس التي تنور الأفكار، وكان الأجدر به تقديمها).
إن أسلوب الارتجال الفوقي لإجراء هذه "الإصلاحات" الانتقائية لم يمكن الدولة من معالجة الأزمة العميقة والخطيرة التي باتت عليها، فارتباطها بدوائر القرار الأجنبي وعدم تجذرها في النسيج الاجتماعي، جعل مآلها الفشل الذريع، وكان ثمن ذلك باهضا.
&واليوم، ودولنا تخوض تجارب إصلاحية جديدة، فإنها في حاجة إلى إقامة حوار وطني حقيقي ومحايد ومستقل، يشرك الفعاليات السياسية والمالية والثقافية وغيرها، والخبراء، من أجل وضع استراتيجيات إصلاح، ومراجعة السياسات الداخلية لهذه الدول، حتى يكون الإصلاح في صلب عملية ديمقراطية حرة وناجعة، يضمن التفاف المواطنين حولها، ودعم التنظيمات السياسية والمالية لها.&
&
التعليقات