&في الحلقة الأولى استعرضت التأويلات والاحتمالات التي دارت بين كثيرين حول هذا الحراك الكبير. فهي في سعتها وعفويتها ضمت الكثير من التوجهات؛ لذا من التسرع القول أن احتمالا أو دافعا واحدا موحدا ينتظمها، لكن طابعها العام صار يتبلور يوما بعد آخر لذاك الجيشان الشعبي، والغضب الإنساني المشروع بوجه حكام متغطرسين متفسخين سلبوا حقوق الشعب، وعرضوا الوطن للضياع!

وهاهم الرجال والنساء الذين أراد متزعمو الطائفة حصرهم في غيتو، أو دويلة، هبوا يرفعون صيحة الوطن الواحد، والعلم الواحد، والمصير الواحد؛ لذلك ارتجف منها الطائفيون الفاسدون فانبروا يحاولون تحويلها إلى طريقهم المنحرف، وإنهائها. هذا يتطلب وكما أكدنا سابقا تأسيس غرفة أركان وقيادة لها، فيكون لها قرار واحد، ومشروع واحد، وأهداف موحدة محددة، وتكتيكات دقيقة منضبطة!

ذكرت أن أهم سمات هذا الحراك إنه جاء من الشيعة وأهل الجنوب، وهذا أمر يدعو للتفاؤل. قلت منذ سنوات، وما زلت أقول أن التغيير في العراق في الحقبة الراهنة لا يمكن أن يتحقق إلا على أيدي أبناء الشيعة،لا لأنهم أكثر ثورية أو ووطنية من غيرهم، فجميع العراقيين لديهم الغيرة على وطنهم ومصيره،ويعتمل في صدورهم غضب عارم على من تسبب في دماره! ولكن حراك الشيعة اليوم أو انتفاضتهم، وثورتهم لا تستطيع السلطة وأحزابها وحماتها في إيران، أن يحتسبوها على أنها مؤامرة الطائفة الأخرى ضدهم، ممولة من السعودية أو قطر وتركيا! أو أنها (بعثية) و(داعشية) ومن أتباع يزيد ضد أتباع الحسين! كما إن تردي الأوضاع وتدهورها سببه حكم جائر سمته الغالبة شيعية،أتت به مع الاحتلال الأمريكي،والدفع الإيراني أصواتهم والفتاوى، وأموال الفساد، لذا أضحى مسؤوليتهم الأخلاقية والتاريخية قبل غيرهم!

لقد تظاهر السنة أو انتفضوا قبل هذا فوصموا بشتى النعوت السالفة حتى ألقيت هبتهم المبكرة في أحظان الدواعش، وراحت في طي النسيان ( سأتحدث عن ذلك في حلقة قادمة، ولكل من يقول هذا حديث بلغة طائفية أحيله إلى الوقع نفسه، أليس هو كذلك؟ عضال في عضال؟ كيف نصفه؟ كيف نشرحه؟ هل نقفز داخل مرآة ملونة؟ أو لوحة تجريدية !)

كثيرون يتحدثون عن أنه حراك عفوي! انتفاضات وثورات كثيرات اشتعلت عفويا أو بحادث عابر، لكنها كانت دائما تنطلق من احتقان طويل وأزمة عميقة وتأخذ نفس عمقها وشدتها، وزخمها!

هل يمكن لأبناء الشيعة أن يتحركوا أو يصنعون ثورة دون أسباب مادية وموضوعية على الأرض؟ قانون الثورة يقول؛ أنها تحدث حين لا يستطيع الناس العيش وفق الطريقة القديمة، ولا يستطيع الحاكمون الحكم وفق طريقتهم القديمة! كيف تحقق هذا في المجتمع الشيعي؟

في الحقيقة أن الشيعة أدخلوا رغما عنهم من قبل متزعميهم اليوم في أزمة منذ اليوم الأول لسقوط حكم صدام، بل يمكن القول أن إرهاصات هذه الأزمة بدأت بعد صدور ما يسمى بإعلان شيعة العراق الذي كتب بين قم ولندن وواشنطن قبل سقوط النظام بعام ونصف تقريبا،من قبل نفس الوجوه الحاكمة اليوم. بذلك وضعوا الشيعة في خندق مقابل للسنة، لا في طريق واحد معهم وغيرهم من الشعب العراقي. شحنوهم بمعاداتهم وكرههم وإن لهم حساب عسير معهم، كان يعبر عنه كل شهر تقريبا بمظاهرات مليونية تلطم وتبكي وتهتف: يالثارات الحسين!

نهض الإنسان الشيعي لتوه من حروب دامية، وحصار طويل مدمر، كان مستلبا معذبا وبدلا من أن يسعف بالغذاء والدواء ونور الحضارة التي حرم منها طويلا؛ ضخوا في عقله وقلبه كراهية الآخر، تارة بصبغه بالبعثية وتارة بالوهابية، لم تكفهم أحقاد الحاضر، فأيقظوا كل ما في التاريخ من أحقاد وضغائن وطالبوه بان يأخذ بثأرها (بيننا وبينهم ما بين الحسين ويزيد ) ( وإنها قضية الإمامة) (بيننا وبينهم بحر من الدماء!) أحد قادتهم الذي عرف بفساده ألقى على كتف السنة كل ما حدث ( من أبو بكر إلى أحمد حسن البكر) واليوم حاولوا إلقائهم في حضن الدواعش! حتى الأذان في المساجد والتلفزيون ادخلوه في المحاصصة! بل وضعوا الشيعة في تضاد وتنافر مع أكثر من 90% من مسلمي العالم لكونهم سنة، حاولوا ربطهم بإيران ومصالحها والتراث الصفوي لا بوطنهم ومصالحهم وتراث أمتهم وهم العرب الأقحاح. فصار العراقي يسأل في مطارات دول كثيرة عن مذهبه وطائفته، وفقد كثير من الشيعة أعمالهم في دول إسلامية!

بنفس الوقت دأبوا عبر منابرهم وفضائياتهم على إدخال الشيعة بما يشبه التنويم المغناطيسي في الحلم الوردي برفع ما زعم عن "مظلومية أتباع أهل البيت"، ومنحهم الجنة في الدنيا والآخرة، بينما هم يسلبونهم لقمة عيشهم وملبسهم وسكنهم! أوهموهم أن الرواتب قد زادت لكن ما في بيوتهم من غذاء وكساء يقول عكس ذلك،أوهموهم إنهم سيحصلون على وظائف لكنهم ظلوا عاطلين رغم إن كثيرين منهم أصحاب شهادات وكفاءات! أوهموهم أنهم آمنون بينما الإرهابيون يستهدفونهم بإجرامهم كل يوم، والذي بلغ ذروته في سبايكر، ولا يزالون يفقدون العشرات من أبنائهم في الحرب على داعش، ومن تربعوا على السلطة باسمهم صاروا يملكون قصورا إمبراطورية،استولوا عليها وهي ممتلكات الدولة، مدججة بالحمايات الضخمة، هم وأبناؤهم في مأمن، وحساباتهم في البنوك الأجنبية غصت بالمليارات، كيف لا تتكون الأزمة؟ ويحصل الافتراق والصدام؟ (فهتفوا اليوم: باسم الدين باكونا

الحرامية) فالشيعة كناس ومجتمع ما كانوا يفكرون بكل هذه الكوابيس والمنزلقات التي أتى بها متزعموهم لجعل أكتافهم المتعبة سلما لهم للوصول إلى السلطة!

المرجع علي السيستاني كان أكثرهم إلحاحا على أجراء الانتخابات الأولى دون تحضير أو استعداد، وهو من أصر على لهوجة دستور متناقض فج مهلهل، خلافا لأعراف الدساتير في العالم وضعوا له مقدمة تنضح طائفية وكراهية، وقد نزل حكام اليوم الانتخابات بقائمة الشمعة (555) وعليها صورة السيستاني، تحملهم أمواج بحر من الدولارات، ففازوا وتبختروا، وطغوا في الأرض! واليوم هو نفسه يطالب بالضرب بيد من حديد على أيدي أولئك الذي خرجوا من دخان تلك الشمعة، ربما كان يظنهم ملائكة وإذا بهم شياطين! أيمكن أن يحدث ذلك لو لم يكن الرجل قد أحس بتململ التاريخ،وضجره من هذا الصخب الخادع، وتمزق أواصره القديمة بما يشبه تلك الأصوات الغريبة التي تبدأ معها الزلازل؟

ذلك حسن طبعا، فالرجوع عن الخطأ فضيلة، ومن يريد لبلده الخير لا يسعه سوى تفهم هذه الصحوة! حتى الآن يبدو صوت المرجعية لدى العبادي أعلى من صوت المظاهرات أو هو مقدم عليها،ولكن إلى أي مدى سيستمر صوت المرجعية يواكب المظاهرات؟ الأمر واضح، حين تبدأ بالتحول إلى ثورة تهز أسس وركائز النظام القائم ساعية إلى نظام مدني علماني ودولة حديثة لا يكون فيها لرجال الدين الكلمة العليا، فإن المرجعية ستسحب صوتها واسمها من المظاهرات كما يسحب الفارس لجام فرسه، ورحم الله أبا نؤاس الذي قال( فلما شربناها ودب دبيبها إلى موطن الأسرار قلت لها قفي!)

المظاهرات كما نرى تضم أصواتا وشعارات عديدة بعضهم يكتفي بالمطالبة بالكهرباء، آخر يريد محاسبة الفاسدين والمختلسين ويطالب باستعادة ما سرقوا، آخر يطالب بإنهاء المحاصصة الطائفية، لكن كثيرين يطالبون بتغيير النظام القائم برمته وسن دستور جديد! رجال النظام وأتباعهم لا زالوا بكل عافيتهم ولياقتهم البدنية لا يقبلون بالمس بنظامهم مفرخ المليارات والكراسي العالية! ويعدونه خطا أحمر، وكل هؤلاء في المظاهرات سافرين أو متنكرين،ترى من سيبقى ومن سيتراجع ويعود إلى بيته؟

هذه المظاهرات هي ضرب من السباق الإنساني،البعض فيه لا يستطيع السير سوى لمسافة قصيرة، قلة يكملون الشوط حتى النهاية، ومن بدا لأول وهلة في المقدمة قد يصير في المؤخرة! لكنها ستظل انتفاضة طيبة، أنعشت الأمل في صدور جفت من طول جفاء، لكن من يطالبون بالإصلاحات المحدودة ستلبى مطالبهم، (هذا إذا لم تجهز عليها المليشيات أيضا، أو تؤخذ ثغرة لانقلاب دموي)!

والذين يطالبون بتغيير النظام أو إنهاء العملية السياسية الفاشلة، أو أن ينال العراق استقلاله وسيادته عن إيران وأمريكا، فإنهم سيغيبون، أو يقتلون، لذا عليهم السعي إلى هدفهم بكل حذر، فحل البرلمان الآن ليس في صالح الهدف البعيد، يجب الاستفادة من كرم وأريحية البرلمان( المفاجئة) وجعله ظهيرا للعبادي مادام الرجل قد أبدى انفتاحا ولو محدودا على الشعب، والمضي بسياسة خذ وطالب، حتى الوصول لنقطة متقدمة ربما ستكون مفترق الطرق!

الأمر لن يقف عند هذا الحد، ستبدأ صراعات ونزاعات احتراب بين من يتبقى في سدة الحكم، ومن فقدوا امتيازاتهم وحملوا أوزار الماضي. وسيتفجر ما هو أدهى وأمر، والواقع إذ ظل بحدود الإقالات أو إلغاء المناصب، وهي غامضة حتى الآن! سيبقى كما هو! فالعلل العميقة في الجسد لا تعالج بإزالة الطفح الجلدي الذي ينجم عنها! والأمر يقتضي استبدال الدم والنخاع! وذاك صعب الآن، فالأطباء المعالجون مصرون على المراهم وعمليات التجميل، وأهل المريض من الشيعة والسنة منقسمون على أنفسهم، ومنقسمون على غيرهم مرات عديدة، وحفارو القبور يأكلون من أيدي الموتى!

&

وإلى الحلقة القادمة!

[email protected]

&