&

في العراق وفي لبنان تظاهرات شعبية تتسّع بإطراد. المشترك الأساس هو أنّ نظام الطائفية السياسية وآلية المحاصصة المتّبعة في البلدين قد بلغ حدّ التعفّن وباتت روائحه تزكم الأنوف والشوارع. نموذجان أكثر وضوحا من غيرهما لأزمة نظام سياسي عقيم فرض من الخارج بالضدّ من إرادة الشعبين، وإن كان المثال العراقي أسرع في التفسّخ من نظيره اللبناني، فلأنّ السبب يعود لحجم الفساد والفضائح المدوّية ولقصور ورثاثة الطبقة السياسية الحاكمة في البلاد.
الملفت في الأمر، هو هشاشة هذا النظام وسهولة إختراقه دوما من الخارج للدرجة التي يمكن تحويله الى مكبّ للنفايات الإقليمية والتدّخلات الدولية حتى لو توفرت إرادة التغيير والإصلاح الداخلي على نحو ما تتوفر اليوم لحكومة الدكتور حيدر العبادي. فالإرادة شيء والقدرة على التنفيذ شيء آخر مختلف عنها، فهما شرطان متلازمان من أجل الإصلاح المطلوب من قبل العبادي الذي لاشكّ في إرادته ولكن ثمّة شكوك في قدرته على التصدّي والمواجهة مع حيتان الفساد ومع رؤوسها السياسية المعروفة في حزبه على وجه الخصوص وفي خارج حزبه أيضا، وفي المضي قدما وسط هذه الأحراش السياسية دون خطّة واضحة ولا بوصلة أو دليل سوى رصيد التظاهرات السلمية ودعم مرجعية النجف دون الإستهانة بهما.
المتشدّدون من أعداء الإصلاح يدركون جيّدا خطورة هذا الرصيد. لا لأنّه بمثابة الضوء الكاشف لرموز الفساد ولقادة الإرهاب الإقتصادي الذي لا يقلّ تدميرا عن إرهاب داعش إن لم يكن مكمّلا له فحسب، وإنّما لوضوح رسالة المرجعية الدينية أكثر من أيّ وقت مضى بوقوفها مع مطالب المتظاهرين بدولة مدنية تضع حدّا نهائيا للتأرجح المنافق على شكل الدولة المعطّلة عمليا والتلاعب على دستورها.
الإرتباك هو سيّد اللحظة السياسية الراهنة. والمنطقة الخضراء في بغداد تكاد أن تواسي قصر بعبدا في بيروت لحيرتهما المشتركة. والحسابات كثيرة ومعقّدة وقائمة أكباش الفداء في الإنتظار وقبضات المتظاهرين تدّق على الأبواب الموصدة بقوّة أكبر يوما بعد يوم والمصير العامّ في كفّ عفريت، أمّا الاحزاب العراقية المشاركة في السلطة وتلك التي تطمح للمشاركة فيها، فهي ليست أقلّ إرتباكا أمام تغيير قواعد اللعبة السياسية المحتملة التي يمكن للتظاهرات الشعبية ان تفرضها على الجميع، فهي في بلداننا المنكوبة، ليست سوى عشائر في المدينة، رغم الإعاء الزائف بالمدنية في الشعارات والهتافات والأناشيد الساذجة، وهي لم تثبت إطلاقا منذ تأسيسها، المقدرة على تجاوز الأعراف الضيّقة والقابلية على إستلهام المفاهيم الحديثة بعمق في ثقافتها الداخلية وفي تحضيراتها الأولية المفروضة لإدارة الدولة والمجتمع. ولذلك يختلط عندها بإستمرار، ما هو محلّي بما هو إقليمي ودولي في ساعة الحساب التي لم يحسب لها الحسبان لدى الأخيار ولدى الأشرار معا، سوى محاولاتها البائسة لركوب الموجة وفرض الوصاية على الشباب الغاضب.
فالحزبيون ما أن دخلوا تجمّعا إلاّ وأفسدوه، وتلك هي خبرتنا المتراكمة منذ ما يقارب العقود الأربعة من عمر معارضة الدكتاتورية، فهم علاوة عن بعدهم عن نبض الشارع وإفتقادهم& بما يعتمل في أحشاء المجتمع من إرهاصات عميقة وتغييرات سريعة على مستوى الوعي والإدراك وإعتمادهم عموما على التقارير الحزبية البلهاء لقراءة الواقع عبر "المناضلين ـ الشرطة" الذين تربّوا عبر الدورات الحزبية وفي قنوات غسل الدماغ وإلغاء ملكة التفكير النقدي الحرّ.
ولذلك فإنّ الرصيد الحقيقي الذي يمكن المراهنة عليه حاليا لتغيير الأوضاع القائمة، هو الزخم الجماهيري الواعد للتظاهرات الشعبية العفوية والمدعومة من قبل المرجعية الدينية في النجف الأشرف وما يمكن أن تشكلّانه من ضغوط& لحسم الموقف بإتجاه الإصلاح.
حيرة العبادي مفهومة، وكذلك تردّده في الضرب "بيد من حديد" كما أوصاه السيستاني، ولكنّ خياره الأخير لدولة مدنية المنحى والإتجاه، هو الذي سيبقى في موضع الشكّ والسؤال . قد يكون الأمر بحاجة الى عاصفة من داخل المنطقة الخضراء نفسها.
باريس&
&