الكتابة عن العراق اليوم مهمة شائكة إن لم أقل شبه مستحيلة، فالداخل إليه من خارجه كمن يدخل متاهة والخارج منه كمن يستفيق من كابوس. كل شيء فيه سوداوي ومحبط ومليء بالمنغصات والمخاطر، فلا وجود للمنطق الصحيح فيه على كل الصعد. وتسير الأمور فيه عكس القاعدة المعروفة التي تقول: الرجل المناسب في المكان المناسب، فلا يوجد الرجل المناسب، وإن وجد فهو موجود في المكان غير المناسب، وهذه اللوحة المأساوية تنطبق على كافة المناصب، من أعلى هرم السلطة إلى أبسط وأصغر موظف فيها. رويت نكتة سمعتها من أحد الأصدقاء أما أحد كبار المسؤولين العراقيين ملخصها أن هناك سلطان عادل لكنه صارم لايطيق الملل يحبه شعبه كثيرا لما يوفره له من أسباب الحياة الكريمة، قرب إليه أحد الظرفاء ذو لسان سليط وسوقي يروي له النكات يوميا للترفيه عنه يدعى عبود التنكجي، وعندما توفي السلطان أوصى بأن يكون خليفته عبود التنكجي، فأذاق هذا الأخير المواطنين كل أنواع العنف والتعسف والتنكيل انتقاما لمعاملتهم السيئة له واحتقارهم قبل تقريب السلطان له وجعله من المقربين له. وكان أغرب قرار اتخذه بحق المواطنين أن على كل من يموت أن تمرر جنازته أمام قصر السلطان ليهمس في إذنه ثم يسمح لأهله بدفنه، احتار الناس من هذا الإجراء الغريب ونسوا معاناتهم ويتساءلون مالذي يهمسه السلطان في إذن الميت، وبعد جهود وحيل كثيرة عرفوا أنه كان يقول له: إذهب أيها المسكين فلقد نجوت أخيرا من دولة يحكمها عبود التنكجي. سقط المسؤول العراقي مغشياً عليه من الضحك وهو يقول هذا هو العراق هذا هو العراق. فهذا البلد يبدو للناظر إليه من خارجه كأنه دولة قراقوش يسير بالمقلوب أي على رأسه وليس على قدميه أو كما يصفه مواطنوه إنه بلد يعيش بالقدرة أو بالمعجزة. فكل مسؤول فيه أو زعيم سياسي أو رئيس كتلة سياسية أو نائب أو وزيرأو محافظ أو عضو مجلس محافظة أو مدير عام، هو بمثابة دولة داخل دولة، هذا إذا أقرينا بوجود دولة أصلاً. ناهيك عن سلطة الميليشيات اللامحدودة بكل أصنافها وانتماءاتها العرقية والمذهبية والدينية والقومية، والتي يمكن في أية لحظة أن تخوض فيما بينها معارك دامية تحرق الأخضر واليابس، إنها تخلق حالة من الرعب الكامن والترقب والخوف من الآتي لدى كافة فئات وطبقات المجتمع العراقي. كل مسؤول أو وزير أو نائب برلماني أو سياسي تحيطه شبكة من المافيات والتي بوسعها شل وإحباط وتسويف أي قرار صائب يتخذه هذا المسؤول أو الوزير الكل يعمل لصالح حزبه او جماعته السياسية أولا وليس لصالح العراق، فآفة الفساد والرشاوي والسرقات والاختلاسات والنصب والاحتيال متفشية في كافة مرافق الدولة والمجتمع، فالعراق اليوم هو دولة الصفقات المشبوهة والهدر والسرقة العلنية أو عن طريق المشاريع الوهمية لاستنزاف المال العام وسرقة عوائد النفط والجميع مشترك في هذه الجريمة. العراق اليوم بلد الإشاعات والتسقيط والفوضى العارمة والقوانين العشوائية، فمازالت قوانين النظام السابق سارية المفعول يضاف إليها مجموعة من القوانين المتناقضة و غير المنطقية التي شرعها النظام الجديد. وبالإمكان عرقلة أي شيء باسم القانون. أنصع مثال على ذلك هو قانون الإستثمار رقم 13 والذي هو في حقيقة الأمر أسوء ما يمكن أن تقدمه قريحة المسؤولين عنه للجم الاستثمار وإبعاد المستثمرين، فبيئة العراق وظروفه لاتصلح بالمرة لشيء اسمه استثمار بالمعنى المتعارف عليه في العالم الخارجي وفي أوساط المستثمرين الأجانب. فلا أمان و لا ضمانات إلى جانب الابتزازات والنسب الفاحشة للعمولات والرشاوي التي توضع أمام المستثمر لكي يحصل على عقد استثماري فما بالك بالعقود والمقاولات التنفيذية التي تتضاعف فيها الأرقام بالملايين والمليارات، إنه شيء لا يصدق لكنه حقيقي ومعمول به في العراق وعلى عينك ياتاجر. تجولت في أنحاء عديدة من العراق والتقيت بعدد هائل من الناس من كافة المستويات والفئات، من العامل البسيط والكاسب الأمي إلى الوزراء والمدراء العامين مروراً بنخبة المجتمع من أستاذة جامعيين وعمداء وصحافيين وإعلاميين وسياسيين ومثقفين وفنانين وأطباء وصيادلة ومحامين وكتاب وباحثين الخ.. ووجدت أن الكل يشكو وفي جعبته الكثير الكثير من القصص والشواهد عن الفساد وسوء حالة البلد وسيره نحو الهاوية يرووها لي كما لو أنهم بحاجة لتفريغ ما في دواخلهم كما يفعل المريض النفسي أمام الطبيب والمحل النفساني وعندما تسألهم ومالعمل؟ لا أحد يعرف الجواب سألتهم من هو الحاكم الحقيقي وبيده القرار في العراق لم يرد علي أحد أو يقدم إجابة شافيه عنه، لعله الخوف هو الذي يمنعهم. وعندما ذكرت أمامهم عينة من الأسماء المعروفة في المشهد السياسي العراقي كانت الإجابات هذا ليس بيده شيء وهذا مجرد دمية يحركونها ووو، وفي لحظة غضب قلت لهم من الذي يملك السلطة الحقيقية إذن؟ في هذه اللحظة ظهر على شاشة التلفزيون شاب معمم محسوب على رجال الدين فصرخ جميع الحضور بصوت واحد هذا أحد الذين يملكون السلطة الحقيقية مما يعني أن للمؤسسة الدينية باع كبير وسلطة حقيقية غير معلنة في العراق تخضع لها الأحزاب والشخصيات السياسية إذ لا يمكنهم فعل أي شيء إلا بموافقتها المسبقة.
لم تنته مأساة العراق " بانتهاء حكم علاوي, ولن تتلاشى بزوال نظام المالكي, ولا بنظام الدكتور حيدر العبادي الحالي ولا بانتهاء النظام الذي ستأتي به الأقدار في السنوات اللاحقة, لأن المطلوب في حسابات القوى الغاشمة إنهاء العراق نفسه, وتشريد شعبه, والاستحواذ على ثرواته, وهذه هي الحقيقة القاتلة التي لن تحجبها عفاريت السيرك السياسي, التي شرعت منذ زمن بعيد بالسير على النهج الذي رسمته لها القوى الطامعة بالعراق, ونفذت مشاريعها الخبيثة لتدميره, تارة بفرض الحصار الغذائي والتعليمي, وتارة بإنزال مقصلة البند السابع على رقاب العراقيين, وتارة بقطع شرايين الأنهار من منابعها الإيرانية والتركية, وتارة بإقامة سدا تركياً عملاقا في هضبة الأناضول لتجفيف دجلة والفرات, وتارة بإطلاق الأفاعي الاستوائية في الناصرية, وإطلاق التماسيح في الديوانية, وإطلاق القروش القاتلة في (سوق الشيوخ), وإطلاق الكلاب المستذئبة في البصرة والرمادي, وتارة بتدمير آثار العراق, وسرقة ثرواته وكنوزه, وتارة بتحويل تربة العراق إلى كتلة أسفنجية ممتلئة بثقوب الآبار النفطية التي غطت مساحة البلاد من شمالها إلى جنوبها بجولات التراخيص التي لا أحد يفهم منها شيئا ولا حتى مخترعها وزير النفط السابق والوزير الحالي لأهم مؤسسة تربوية, وتارة بالارتكان إلى السياقات العشائرية البدائية في حسم النزاعات القائمة بين المجاميع والأفراد، ولهذه الأخيرة قصص وروايات تصيب سامعها بالجنون لغرابتها وكأنها تحدث في عالم موجود في اساطير ألف ليلة وليلة, وتارة بالعودة إلى ترويج الأفكار الطائفية, وتسويقها في مواسم الانتخابات, الذين سرقوا قوت الشعب, وتارة بزرع الفتن وإشاعة النعرات الطائفية, وتارة بتعطيل الإنتاج الزراعي والصناعي والاعتماد على استيراد المواد الغذائية من أردأ المناشئ, وتارة بالدعوة لتكريس الجهل والأمية, وتشجيع ظاهرة الحواسم, والسماح بالتجاوزات المتكررة على الممتلكات العامة, وربما يطول بنا المقام لرسم صورة القلق اليومي الذي يعيشه المواطن العراقي البسيط فوق كفوف العفاريت" اقتبست هذا المقطع الطويل من الفيسبوك لكاتب لا عرفه ولم يذكر أسمه لكنه يعكس بعمق حالة العراق الحالية فهذا البلد يحتضر سريرياً ولن يستفيق حتى لو وضعناه في غرفة الإنعاش والإسعافات المشددة فقد دخل في غيبوبة ستقوده حتماً إلى العالم الآخر فغده أتعس وأكثر قتامة وخطورة ودموية من وحاضره. لقد قتلوا في هذا البلد شعور المواطنة والانتماء ودفعوا بشبابه لمغامرات الهجرة غير الشرعية والهروب غير القانوني نحو المجهول حيث يتربص بهم الموت أو التشرد والمعاناة، ومغادرة كوادره ونخبه ومثقفيه وأخصائييه وتركه فريسة بيد الجهلة والمعتوهين والمتخلفين عقليا الذين يعيشون في عصور التوحش والتخلف خارج الزمن والعصر والمدنية ينوحون وكأنهم مايزالون يشاركون في تراجيديا بدأت منذ ألف وخمسمائة عام ولم تنته بعد. لا خير في بلد ليس فيه كهرباء ولا ماء صالح للشرب ولا للاستهلاك البشري ولا مجاري ولا نظافة ولا طرقا وأرصفة تستحق هذه التسمية. هل نكتفي بالنقد والتجريح اللطم على الخدود أم نبحث عن الحلول ونقدم المقترحات والمشورة العملية القابلة للتطبيق للخروج من هذا الوضع قبل إدخال العراق إلى غرفة التشريح؟
لقد حدثت معجزة قبل أسابيع وخرجت الجماهير العراقية الغاضبة تتظاهر وتطالب بالإصلاح والتغيير كالسيل الهادر في كل محافظات العراق عدا تلك التي تقع تحت قبضة عصابات داعش الإرهابية، وتطالب بالخبر والحرية والدولة المدنية مما هز عروش السياسيين وأثار في نفوسهم الهلع ووضع رئيس مجلس الوزراء في موقف لا يحسد عليه فعليه أن يتخذ قرارا وإجراءات حقيقية وملموسة وفعالة لتلبية مطالب الجماهير المنتفضة بسلمية منقطعة النظير ولقد قام بالفعل باتخاذ بضعة حزم إصلاحية لم يلمس المواطن نتائجها بعد وهو يراقب تحركات ومناورات حيتان السياسة وهم ينشطون لإجهاضها بذرائع عدم دستوريتها وعدم شرعيتها لأنهم منتخبون ولا بد والحالة هذه من حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة مبكرة بيد أن المشكلة أن نتائجها ستكون كارثية لأنها ستجلب نفس الأسماء والكتل السياسية القائمة إلى سد الحكم مرة أخرى فقانون الانتخابات مفصل على مقاسها والدستور موضوع لخدمتها والإبقاء عليها مدى الحياة وبالتالي لن يكون مثل هذا الإجراء نافعاً أو فعالاً أو ناجعاً مالعمل إذاً؟ على الجماهير أن تخرج بتظاهرات مليونية على غرار شعب مصر الرائع الذي أخرج ثلاثين مليون لتأييد السيسي في خطوته لإطاحة مرسي ومن خلفه حركة الإخوان المسلمين الذين احتكروا السلطة في مصر وصاروا يخططون لإرجاعها إلى القرون الوسطى، فالدكتور العبادي بحاجة لهذا التفويض لكي يتجرأ على مواجهة المستحيل وتحدي القوى المتربصة به وليحتمي به في معركته الإصلاحية وضمان نجاحها, وعليه ان يحيط نفسه بقوة مخلصة وموالية له تحميه من غدر خصومه وتكون بمثابة الأداة لتصفية رموز الفساد ومحاسبتهم واسترجاع أموال الشعب المنهوبة، وفي نفس الوقت وقف الهدر والتبذير والانفاق غير المبرر على الحمايات والمسؤولين الذي يشكلون عبئاً على ميزانية الدولة وترشيق الوزارات والوظائف العامة ودفع عجلة الإنتاج لاسيما في القطاع الزراعي والبناء وإعادة الإعمار لاحتواء البطالة وتشغيل الأيدي العاملة، ولكن يتعين عليه أولا وقبل كل شيء تطهير السلطة القضائية من الفساد المهيمن عليها ومنحها الاستقلالية الحقيقية.&
التعليقات