لازال الجدل مستمراً في الأوساط الأكاديمية حول وصف ماحصل في مصر قبل أربع سنوات، هل هي ثورة أم انتفاضة! يسميها الصحفيون ثورة ويصفها الأكاديميون بالإنتفاضة لأن مصطلح الثورة لاينطبق تماما ً عليها. فالثورة هي إسقاط نظام الحكم من قبل الثوار الذين ينتمون في الغالب لمجموعة من الحركات السياسية والاجتماعية ناضلت لزمن طويل للوصول لهدفها. لكل حركة برنامج عمل واضح لمابعد الثورة ولها رموز وشخصيات لها ثقل جماهيري وللحركات قدرة على تحريك الشارع متى شاءت ولها تكتيكات واستراتيجيات ولها ايضا تحالفات مع مؤسسات داخل النظام كالجيش أو المؤسسة الدينية أو النقابات والإتحادات ومنظمات المجتمع المدني. لاتشترك في تلك الحركات مجموعات من طبقة اجتماعية واحدة ولا تمثل اثنية أو عرقية أو طائفية واحدة وليست من الرجال أو النساء فقط فهي خليط من كل ذلك من أجل الوصول لهدف معين واحد.&

من واقع مأساوي في العراق جعل الكثيرين يتمنون الثورة ويحلمون بها، فمنهم من يتحدث عن اسقاط الحكومة ومنهم من يريد أن يزيل البرلمان ومنهم من يريد أن يغير نظام الحكم إلى رئاسي ومن يريد أن يغير الدستور بتظاهرتين أو ثلاث. بالتأكيد ليس أي شيء مما ذكرت سيحصل. فلو ذهبنا إلى أقصى حد وأجبر المتظاهرون السيد العبادي أو البرلمان لحل نفسه والدعوة لإنتخابات جديدة سيعود ربما أكثر من نصف البرلمانيين إن لم يعد تسعون بالمئة منهم وستبقى نفس الكتل المهيمنة تسيطر على مفاصل القرار السياسي وسوف لن يحصل شييء سوى تغيير بعض الوجوه. أن التغيير لايتم بتغيير الشخصيات بل بتغيير طبيعة العلاقات بين القوى المهيمنة فالسلطة لها مراكز قوى وإن تبدو سياسية إلا أن لها جذور اجتماعية واقتصادية وثقافية. فالتغيير عملية معقدة وطويلة بحاجة لجهد وتنظيم وأدوات.&

كل ماقلت عن الثورة لايجعل الحراك الجماهيري بلا معنى، فكل حراك هو ظاهرة سياسية صحية ودعوة لتصحيح المسار، لكن على المتظاهرين تحديد مطالبهم بوضوح وتحديد أهدافهم وإستثمار هذه الفرصة من فورة الجماهير. أن التشتت والمطالب الرومانسية سيخرج الأمور عن نطاقها وسينتهي المطاف بالفوضى. وحين تكون الفوضى سيستثمرها أكثر التيارات تنظيما ً وجاهزية كما حدث مع الأخوان في مصر، ونحن نعرف من هو أكثر الناس جاهزية في العراق، ليس الأحزاب السياسية بل من يحقق إنتصارات على الأرض ويريد موطأ قدم في عالم السياسة. لابد من كيان وحركة سياسية ديمقراطية مدنية تطرح نفسها كبديل في هذا الظرف تنبثق من روح الجماهير، فهذه الفرصة العظيمة لاتتكرر في إنبثاق قوى سياسية جديدة تنسق المطالب وتحدد الأهداف والاستراتيجيات وتنسق بين المحافظات لتدشين حملات تجمع بها التواقيع وتحشد بها الناس كحملة تمرد في مصر. لقد فشل دعاة الإسلام السياسي وأحزابه المصلحية وعلى البديل أستثمار الفرصة لكسب جماهير غير منتمية سياسياً لتغيير واقع بائس.

طريق التغيير طويل عبر الإصلاح، فالإصلاح ثورة ناعمة، فليس كل من في الحكومة والبرلمان من الشياطين، فهم في الغالب يخضعون لخطاب يصوغه مجموعة من روؤساء الكتل. على تلك الحركة وعلى المدى البعيد دعم القوى التي لها مشروع بديل في السلطة لتغيير الفاسدين وتصحيح المسار السياسي المتعثر. ومادام السيد العبادي يريد الإصلاح وقد أستمد قوة من المرجعية التي طلبت منه أن يكون أكثر حزما ً مع الفاسدين فتلك الجماهير ستكون الظهير الذي يستمد العبادي منه قوته عندما يخذله حزبه وكتلته المنتمي اليها.

أخيرا ً وليس آخرا ً وعلى المدى البعيد، لابد من حركات أجتماعية في العراق تضبط الإيقاع السياسي. حركات تعيد للعمل النقابات والإتحادات ومنظمات المجتمع المدني. تلك الحركات ممكن أن تكون البديل المنتظر في واقع يسيطر عليه رجل الدين المصلحي والسياسي الفاسد. هناك كتلة عمالية هائلة تفتقد للتنظيم في العراق وتستغل بأجور بسيطة ولاضمانات اجتماعية ولا أي شييء، لو نظمت فسيكون لها صوت سياسي واضح. وهناك أيضا ً كتلة طلابية يمكن أن تنظم من خلال الإتحادات وخارجها ويمكن أن يكون لها أثر سياسي كبير. وهناك كتلة نسائية هائلة مغيبة بفعل فاعل كي لايكون لها صوت سياسي فاعل. وهناك غياب لمنظمات المجتمع المدني يمكن أن تحل مشاكل أجتماعية وتعين الدولة على أداء وضيفتها. كل تلك القوى يمكن أن تكون ظهير لمظاهرات اليوم وحينها سوف لن يركب الموجة تيار ديني أو تستغل لتصفية حسابات بين الكتل أو تسيس طائفيا ً، فكل الذي ذكرت هي كيانات عابرة للهوية الأثنية والعرقية والطائفية والتي يمكن أن تعيد للنسيج الاجتماعي الممزق لحمته. المهم أن تكون هناك بداية، وهاي هي البداية.

&

[email protected]