&
لم تقل لي العصفورة شيئا عنهم ولا قارئة الفنجان. لكنّي لا أؤمن مثل أكثر القرّاء الكرام بخطابات الساسة وبرطانتهم، بل أؤمن بالإنسان وبأفعاله وتصّرفاته. السلوك هو الترجمة الحقيقية للكلام. كلّ ماعدا ذلك هو هراء ولغو فارغ يبحث عن مصفقين بلهاء. البشر متشابهون في محنتهم. ومعركتهم الأساسية واحدة أينما حللت. الغرباء أقارب وأشدّ أنواع الغربة، هي تلك التي بين أبناء جلدتك. الغريب لا يخيف سوى الأغبياء الذين غالبا ما يكونوا أدوات تنفيذ لأفكار وتصوّرات وسياسات شوفينية وعنصرية تتاجر بالنقاء المزيّف للأعراق والهويّات والمذاهب والطوائف والقوميات. الإنسانية بوتقة الإختلاف. بيئتها الطبيعية التي تحتضنه وترعاه وتحميه. هي الإنتماء الأول وقد تكون الإنتماء المتأخر أحيانا. بينهما جهد جهيد وصراع مرير لمواجهة التيّارات الجارفة. يقال أنّ الماء هو آخر ما تنتبه له الأسماك.
مدارس تشويه الوعي الإنساني كثيرة ومتعدّدة. درسها الأول يستهدف منهج التفكير الحرّ عن طريق قلب الحقائق وتأويلها بواسطة شحن المعلومات الخاطئة والمزوّرة التي تُفرغ حمولتها الثقيلة في طاحونة العقل لتنتج طحين الشرّ وديناميت الأحقاد ومعجون المحبّة كما كان يحلو لأحد أمراء الشحن الطائفي ترديده دوما. الفكر المستنير هو العدوّ الأول للظلام. "مَن تمنطقَ تَزندق". قالها أحد المعلمين الأوائل لمدرسة إبليس. الطائفية السياسية كفيلة ببقية الدروس. التخريف والتهريج والثرثرة ستصبح برامج سياسية لأحزاب تعمل وفق نظام الملاهي الليلية. صخب الرقص ونشاز الموسيقى الهابطة سيطغي على أنين الضحايا خارج الأوكار.&
هزّ الرؤوس والبطون يوحّد دراويش السياسة والراقصات. التسعيرة موحّدة، وزبائن السفارات الإجنبية دائما على حقّ، والدفع بالتقسيط المريح أو المؤجل. "خلّيها على حسابي يا معوّد". الأعناق والأرزاق وأرقام الحسابات البنكية بأيدي الزبائن والحساب واحد والجيب واحد وما بين الخيّرين حساب. الغلمان خارج الماخور ينهضون بمهمّة الدعاية والإعلان. يلصقون على الحيطان الحزينة للمدينة، ملصقات دورية تدعو لعدم مصافحة المرأة وبتحريم الغناء وتجريم شارب الخمر وتارك الصلاة. أية صلاة؟. تلك التي لربّ العالمين أم تلك التي لأرباب الرذيلة والفجور والإنحطاط؟. لم يعد لنا نفس الإله الواحد منذ تعرّفنا على سحناتكم الشيطانية. التكفير بحاجة لتطعيم مستمرّ ضدّ التفكير. ولذلك لابدّ للخنادق أن تُحفر عميقا، وللأسوار أن ترتفع عاليا، وللحدود أن ترسم خطوطها الفاصلة بين الملهى والخرابة. بين المنطقة الخضراء والمنطقة الحمراء. يقولون أنّ الدولة ضعيفة والمليشيات فالتة. هل يكفي هذا كتحليل؟.
الدولة غير قادرة على توفير الأمن والمليشيات العابثة تشيع الخوف في كلّ مكان. الأوهام تضخّم المخاوف. الإشاعات والخرافات نحن كفيلون بها. يكفي أن يطلقها أيّ معتوه لكي نروّجها ونصدّقها ونحوّلها الى حقيقة دامغة. المنطق والتفكير العقلاني السليم يحصران الخوف ويقلّلان من إحتمالاته. فإذا كانت الدولة نفسها قائمة على الأوهام، ومؤسساتها الرسمية وسلطاتها الثلاث ينخرها الفساد، ورموزها الحاكمة يعتاشون على توازن الخوف المتبادل فيما بينهم، فالمليشيات الفالتة ستبقى فالتة بالطبع. الفوضى والفلتان شرطان متلازمان ومطلوبان لعصابات الليل والنهار. السارق مرتعد لأنّ الحفاظ على الثروة المستباحة بحاجة لقوانين تتستّر عليها، والمسروق خائف لأنّه يعرف بخبرته أنّ قانون الجبان هو من أقسى القوانين على الأرض. الجميع خائفون والخوف سيّد القرار.
المجهول مرادف للغريب، وهما يشتركان في تهديد السكون. السكون سمة من سمات التخلّف. الآراء المختلفة هي التي لقّحت الحضارات وهي التي كانت ولم تزل أساس ديمومتها وإستمرارها وعطائها المستمرّ والأبدي. أمّا معجون المحبّة الفاسد، فلم يعد قابلا للإستهلاك الآدمي وخطابه الكاذب صار خارج نطاق الخدمة. تصالحوا مع أنفسكم أيّها المرضى.
&
باريس
&