&كانت الثورة العربية الكبرى التي يحتفل الاردن هذه السنة بمرور مئة عام على انطلاقها تمثل الامل. لم يبق من هذا الامل سوى الاردن. ولأن الأردن، على رأسه الملك عبدالله الثاني لم يفقد كلّ الامل، كان عليه احياء الذكرى وان في ظروف اقليمية اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها صعبة ومعقدة ومليئة بالمخاطر.

اختار عبدالله الثاني الذهاب الى العقبة يوم السبت الماضي لرعاية مراسم تبديل راية الثورة العربية الكبرى ورفعها وذلك من منطلق ان العقبة هي اوّل مركز قيادة لتلك الثورة.
يأتي الاحتفال بمرور مئة عام على الثورة العربية الكبرى في وقت يمرّ مئة عام على توقيع اتفاق سايكس ـ بيكو الذي اقتسمت بموجبه بريطانيا وفرنسا المنطقة.
ما يعنيه التزامن بين الحدثين انه كان هناك تنبّه عربي باكر الى ضرورة بقاء المنطقة العربية موحّدة بعد انهيار الدولة العثمانية. لكنّ الواضح انّه منذ اليوم الاوّل للثورة العربية، كانت هناك رغبة في القضاء عليها والقضاء في الوقت ذاته على امكان قيام كيان عربي موحّد لا يستطيع المحافظة عليه وعلى مكوناته سوى الهاشميين. وهذا ما يفسّر الحروب التي استهدفت العائلة.
قاد الشريف الحسين بن علي الثورة العربية الكبرى التي تبيّن مع الوقت انّها لم تكن سوى حلم عربي جميل حاربته قوى كثيرة من اجل الوصول الى المرحلة الراهنة التي تتسم اوّل ما تتسم بحال الهلهلة والاهتراء للنسيج الاجتماعي في مختلف الدول العربية، في العراق وسوريا ولبنان على وجه التحديد.&
من حسن الحظ انّه لا يزال هناك الاردن الذي يمتلك الملك فيه ما يكفي من الشجاعة للتعلّق بمبادئ الثورة العربية الكبرى التي لم تميّز بين عربي وآخر ولا بين مواطن وآخر، بل جمعت بين الشيعي والسنّي والدرزي والمسيحي واليهودي.
كان الهاشميون ضمانة لبقاء المجتمع العربي في منطقة المشرق موحّدا. كانوا ضمانة للمدينة العربية بمعناها الحضاري. كانت الهجمة التي تعرّض لها الشريف الحسين بن علي الذي تحوّل منزله المتواضع في العقبة الى متحف منذ العام 1973 دليلا على &غياب حدّ ادنى من الوعي لدى اكثرية شعوب المنطقة.
نعم، وُجد سايكس ـ بيكو ولكن هل هناك من عرف كيف التعاطي مع هذا الاتفاق الذي ما كان ليجد ترجمة له على الارض لو الحروب التي تعرّضت لها الثورة العربية الكبرى. استمرّت هذه الحروب على الهاشميين في العراق والاردن، اي في المكانين اللذين كان يمكن ان يشكلا مثالا يحتذى به في الاقليم كلّه. ادّت الحروب التي تعرّض لها الهاشميون على مرّ التاريخ الجانب الاكبر من اغراضها. ابيدت العائلة بشكل شبه كامل في العراق الذي يمتلك ثروات ضخمة، لكنّها بقيت في الاردن الفقير في كلّ شيء، باستثناء الانسان. لا يزال الاردن الى الآن صامدا هو و"الجيش العربي" الذي هو جيشه. صمد الاردن على الرغم من اغتيال الملك عبدالله بن الحسين الاوّل وهو في حرم المسجد الاقصى في العام 1951.
لا يزال الاردن يحمي الى اليوم مبادئ الثورة العربية الكبرى ويرعاها. كان اوّل من حماها المللك المؤسس عبدالله الأوّل، ثم الحسين بن طلال الباني الحقيقي للمملكة ومؤسساتها الذي وجد في عبدالله الثاني من يستكمل الرسالة ويحافظ عليها.
سيكتب التاريخ انّه اذا كان مكان يمكن ان تستعيد فيه النهضة العربية شبابها، فهذا المكان هو الاردن الذي عمل كلّ ما يستطيع من اجل المحافظة على ما بقي من القضيّة الفلسطينية بعدما ذهب عبدالله الأوّل ضحية رافعي الشعارات الذين لم يفهموا يوما معنى التعاطي مع الواقع ومع موازين القوى. من بين هؤلاء كان الحاج امين الحسيني، مفتي القدس، الذي لعب دورا كبيرا في حصول النكبة في العام 1948، خصوصا انه رفض قرار التقسيم، كما ذهب قبل ذلك الى برلين، في اثناء الحرب العالمية الثانية، للاستنجاد بهتلر، واضعا الفلسطينيين في صفّ الذين خسروا الحرب!
من حقّ الاردن الاحتفال بمئوية الثورة العربية الكبرى. الاردن حمى كلّ ما بقي من هذه الثورة، على الرغم من كلّ الظلم الذي تعرّض له. لا يزال الى الآن يؤدي هذا الدور. فالمملكة الاردنية الهاشمية هي من الاماكن القليلة في المنطقة التي فيها عيش مشترك. لا تفريق بين مسلم ومسيحي ولا تفريق بين شركسي وعربي. اكثر من ذلك، الأردن هو بين القلائل الذين ما زالوا يعملون من اجل القضية الفلسطينية ومن اجل حلّ الدولتين نظرا الى انه يجد ان لديه مصلحة في ذلك. لديه مصلحة في حماية حدوده ولديه مصلحة في حصول الفلسطينيين على حقوقهم كاملة غير منتقصة.
يقاتل الأردن في هذه الايّام على جبهات عدّة. يقاتل في الداخل على جبهة الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها والتي تفاقمت بسبب وجود نحو مليوني لاجئ سوري في اراضيه. يعاني الأردن ايضا من الإرهاب الذي وجد ارضا خصبة له في سوريا والعراق. ويعاني من المزايدين الذين لا يعرفون شيئا عن تاريخ البلد ووقوفه في 1970 حاجزا في وجه مشروع الوطن البديل للفلسطينيين.
لولا بسالة الملك حسين، رحمه الله، والذين كانوا الى جانبه، لكان الأردن سقط في 1970. انقذ الملك حسين الاردن وانقذ الفلسطينيين من انفسهم اوّلا. من حقّ عبدالله الثاني ان يقول الآن انّه لا يريد ان يسمع بعد اليوم عبارة الوطن البديل. دفن الأردن هذه العبارة نهائيا والى الابد بعدما رسم الحدود النهائية للمملكة.
كلّ من حارب الأردن، خدم اسرائيل بطريقة او بأخرى. لو استمع جمال عبدالناصر للملك حسين، لما كان اوصل العرب الى حرب 1967 التي ما زالوا يعانون الى اليوم من نتائجها. ولو استمع حافظ الأسد الى الملك حسين ايضا، لكان استعاد الجولان وما كان امضى آخر حياته في الاعتراض على اتفاق السلام الأردني ـ الفلسطيني وفي المتاجرة بالفلسطينيين وقضيّتهم. ولو استمع بشّارالأسد لعبدالله الثاني، لكان وجد مكانا يعيش فيه معزّزا مكرّما مستمتعا بثروته الضخمة مع افراد عائلته، بدل الإستمرار في حرب الابادة التي يشنّها على الشعب السوري، وهي حرب ستنتهي بتفتيت سوريا رسميا.
بعد انبعاث الغرائز المذهبية بفضل المشروع التوسّعي الايراني، من كان يتصوّر هذا الانقسام السنّي ـ الشيعي في منطقة كانت تحلم قبل مئة سنة بمبادئ الثورة العربية الكبرى؟ من كان يتصوّر ان المواطن العراقي لن يرى يوما ابيض منذ الإنقلاب الدموي على العائلة المالكة في الرابع عشر من تمّوز ـ يوليو 1958؟
لم يعد الأردن يرمز اليوم الى ما بقي من الثورة العربية الكبرى ومن مبادئها فحسب، بل ما زال يرمز ايضا الى &ما بقي من امل في ان الثورة العربية الكبرى لم تكن حلما مستحيلا.&
&