لا شك بأن الاستطالة والاستغراق في التاريخ والمكوث بين طيات مدوناته قد لا يبدو مشوِقاً، وذلك لِما للمكان الغابر والعميق من رطوبة ملحوظة قد تسري في الجسم الحيوي لكائن هذا الزمان، ولكن يبقى جمال العودة للتاريخ هو ليس في السكن بإحدى زوايا مغاوره، إنما علَّ المرءَ يأخذ منها قبساً ينير حاضره، لذلك كانت حلقة سؤال جريء في قناة الحياة التي يقدمها الأخ رشيد، والتي استضاف فيها الناشط الحقوقي المصري مجدي خليل دور ما في إعادة التذكر وإعمال المقارنة بعض الشيء ما بين الحاضر والغابر.&
ويبدو لي أن الصورة الذهنية المتشكلة عن الكرد منذ قرونٍ طويلة هو أنهم تعودوا على أن يكونوا رأس الحربة في حروب المنطقة ككل، إن كان في الاحتراب الداخلي بين حكام المنطقة وشعوبها، أو في محاربة أو صد الغزاة القادمين من خلف البحار، فصورة حامل الأوزار المطبوعة في مخيلة شعوب المنطقة، هي أن الكرد ظلوا خير مَن يُمثل ذلك الدور على مدى قرون.
وهي على العموم قد تكون الصورة المحببة لدى الكثير ممن يحبون أنفسهم كآخرين مستفيدين من دوام غباء الأول، طالما أن حامل الأوزار تخلى عن أناه كُرمى مشاريع الآخر وأهدافه الاستراتيجية وغاياته التي دائما ما يجهلها حامل الأوزار، وربما من الطبيعي جداً أن يفرح الآخر بوجود هكذا نموذج بشري مطيع، يلبي رغباته السياسية والعسكرية متى ما عنَّ على باله أيَّ مشروعٍ طمسي، تغييري، حربي، والمفارقة أنه ككائن حي، فوضعه يُحاكي الصورة نفسها التي تعرفها شعوب العالم عن ذلك الكائن الجلود والمخصص للتحميل، الذي عادةً ما يُرافق حياة القروي من الشروق الى الغروب، الكائن الذي يتحمل المشقات ويخدم صاحبه حتى آخر رمق في بنيانه، ذلك الذي يقوم عادةً بكل الأعباء المنزلية وفوقها يتكفل بنقل ما هو خارج المنزل من الأثقال وحاجيات صاحبه، أما الجديد الذي لا يقبل به الآخر هو ظهور الأنا لدى مَن كان طوال عمره معوِّداً شركاء الجغرافيا بأنه دونَ أناهُ، أو متنازلاً عنها على الدوام، وذلك كرمى انشراح سريرة شركاء المكان.
ذلك فيما يتعلق بالغابر، أما اليوم فلأن رهطاً أو فريقاً من ملة حاملي الأوزار ضاقوا ذرعاً بالأحمالِ وبدأو بتلمس ذواتهم، فهذا التبديل لم يرق للأخ المستفيد من غياب الأنا لديهم، وقد بيّنت ردود الأفعال بأن هذا التغيير البنيوي لا يناسب مزاج ومصالح شركاء فضائه، باعتبار أنه عوّدهم على أن يحمل الأوزار طوال القرون السابقة عنهم، ففي سوريا مثلاً وفي الوقت الراهن تحديداً، فلا إشكال لدى أغلب الاخوة في المعارضة أن تكون محافظة السويداء كلها خارجة عن مسار الثورة والتغيير الذي يحصل في البلد، وما من مشكلة لدى معظم قوى المعارضة إن كان هنالك توافق بين أقطاب الطائفة تلك وهم يُنسقون مع قادة النظام في دمشق، طالما أن هنالك منبر ضخم مثل قناة الجزيرة طوع بنان فيصل القاسم الذي يرافقه أحياناً في طلاته على القناة ماهر شرف الدين ليبرئا ساحة بني جلدتهما أجمعين، وذلك من خلال الصياح المتواصل لفيصل القاسم وهو بحذاقةٍ منه يحاول إبعاد الشبهة عن كل الطائفة وعلاقة أقطابها بالنظام البعثي، وذلك من خلال رمي الكرة تارةً في ملعب العلويين، وتارةً أخرى في ملعب الكرد، مع التناسي طبعاً نسبة وجود السنة مع النظام والذين هم حتى الآن أحد أعمدة بقائه.
كما أن بقاء معظم الاخوة المسيحيين مع النظام لا إشكال فيه لدى بعض المزاودين في المعارضة السورية، والموقف قد لا يدعو للحساسية المفرطة على غرار ما يحدث مع الكرد، طالما أن هنالك شخصيات مثل ميشيل كيلو، جورج صبرا، عبد الأحد صطيفو قادرون من خلال اطلالاتهما الثورية على أن يحموا كل المسيحية من ساحة شكوك الاسلاميين لهم بالوقوف مع فرعون دمشق، بما أنهم فلحوا بإبعاد بني جلدتهم عن مواطن الاتهام من خلال اطلالتهما المتواصلة على وسائل &الإعلام المعارض للنظام السوري.
أما الكردي فيبقى متهماً ومشكوكاً في أمره، ولو اُبيد كل جبل الاكراد في اللاذقية من قِبل النظام السوري، وهو الذي جرى، إذ أن انكسار جبل الاكراد في اللاذقية لم يُحدث أي حرج لديهم، كما أنه حتى لو دُمرت كل القرى الكردية في منطقة الباب وريفها فذلك لا يبدو ذا أهمية لدى المعارض المزاوِد الذي كان محبكجياً للأسد ونظامه حتى 2011، ولكنه بقدرة الظروف صار لاحقاً معارضاً شرساً لنهجه السابق.&
وفيما يتعلق بتصرفات وحدات الحماية الشعبية في الشمال السوري والتي أتت بناءً على طلب التحالف الدولي، عن أنهم خانوا الثورة، فسنذكر أهم مصدر خبري لدى الثورة السورية أي قناة الجزيرة القطرية التي قالت: بأن قوات سوريا الديمقراطية تتألف من أحد عشر فصيلاً عربياً، من بين الخمسة عشر فصيلاً، والتي تضم أيضا وحدات الحماية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، مضيفاً بأن "قوات سوريا الديمقراطية" هو تشكيل عسكري سوري مكون من عرب وأكراد وتركمان وآشوريين، وهو يحظى بدعم أميركي، ونجح في تحقيق مكاسب على الأرض، ومن أهدافه المعلنة محاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم داعش ومثيلاتها، وكان قد أُعلن عن تلك القوات في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2015 بمدينة الحسكة، بدعم أميركي مالي وعسكري.
عموماً فما تقدم يؤكد بأن قوات سوريا الديمقراطية تتألف من قوى عربية وكردية وتركمانية ومسيحية، ولكن أغلب النشطاء ووسائل الإعلام المعارض عندما يتحدثون عن تلك القوات ينسبونها للأكراد فقط، ويُسقطون عن عمد كل الفئات والملل الأخرى منها، وذلك لتحميل الكرد وحدهم وزر أخطاء وموبقات تلك القوات التي تشكلت بالمعية الدولية، وذلك عسى أن تظل الصورة المشوّه لتلك القوات في وسائل الإعلام من نصيب الكرد وحدهم.
إذاً فباعتبار أن الكثير من الذين يروق لهم التباهي بأنفسهم كآخرين مسيطرين على مصائر سواهم، أي أولئك الذين تعودوا على أن لا يروا أو يعرفوا الكرديَ إلا على الصورة الموجودة في ذاكرتهم، فصعب عليهم تقبل الكردي بصورة مغايرة عما يُعرف عنهم، بكونهم تعودوا عليهم حاملين لأوزارهم إلى أجلٍ غير مسمى، لذا فهو قد يقبل بكل سهولة بأن يبقى الدرزي مع النظام ولا إشكال في ذلك، ويقبل بالمسيحي بأن يبقى جزءاً من النظام فلا حرج في ذلك، وبأن يبقى السني في أغلب المناصب السيادية في النظام فيقبل بذلك، إلا أنه لا يستطيع قبول فكرة أن تكون هنالك فئة من الكرد مع النظام، لذلك فهو يتهم كل الكرد من خلال تلك الفئة، والسبب الجلي هو أنها ولربما كانت المرة الأولى التي لم يكن الكرد فيها كتلة واحدة، أو جسداً واحداً يحملُ أوزار غيره مثلما تعود المستفيدُ التاريخي من جيرته وما يحبذه فيه عادةً ويريدْ.&
&