&
ما يفهم عن يقظة الوعي الوطني بمعانيه الأولية هو الممارسة والسلوك الايجابي تجاه المجتمع والدولة، ولاشك ان هذه العلاقة في حالة ارسائها ببنية تحتية مبنية على أساس ضمان رعاية وحماية واحترام حقوق وكرامة الانسان ستنتج عنها انتماء للارض والشعب وللقضايا المصيرية والجوهرية للبلد، وبالتالي تفرز منها حالة مجتمعية منتجة بحجوم مختلفة ومتفاوتة من أغلب افراد ومكونات المجموعات السكانية تساعد على حصول تقدم وتطور بمستوى معين للمجتمع ويالتالي للدولة، ومما لا ريب فيه ان البنية التحتية لاي مجتمع ولجميع القطاعات المرتبطة بحياة الانسان لا تبنى الا على ايدي نخبة من المفكرين والمنظرين والعلماء والحكماء والعقلاء والمخططين لديمومة وبناء وتنمية المجتمع، والمعروف ليس من السهولة تأمين هذه النخبة القائدة على مستوى المجتمعات الشرقية والشرق الاوسطية، وان توفرت فهي نعمة كبيرة.
&
والمجتمع الكردي بحكم تبعيته للمجتمعات الشرق الاوسطية التي تعاني من اضطرابات سياسية واجتماعية وحياتية ودينية واقتصادية على مر القرون والعقود، يعاني من نقص شديد في البنيان الفكري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي على مستوى النخبة لبناء المجتمع على أسس معرفية ومنهجية، ويبدو ان هذا السبب هو العامل التاريخي في عدم تولد فكرة بناء الدولة الكردية على مر العصور والقرون والعهود الماضية، ولكن هذا لا يعني مطلقا عدم ظهور دولة فيها سمات وقيادة كردية أصيلة، ومثل ذلك هو الدولة الأيوبية التي اقامها القائد صلاح الدين الأيوبي وهو مثل صارخ على بروز وظهور دولة قوية بشخصية قيادية كردية تاريخية، وبتوارث سلالة عائلة كردية حاكمة وقائدة لدولة امتدت من السام والعراق ومصر الى اليمن، وحكمت العرب والعالم الاسلامي قرنين من الزمن(*)، وحمت الاسلام من الزوال ومن غزوات وحروب الممالك الفرنجية الصليبية في القرون الوسطى، واستنادا الى هذه الحقيقة ليس من الغريب ان يتعمد الغرب الى تقسيم كردستان الكبرى على الترك والفرس والعرب ولم يسمح للكرد بانشاء دولة لهم، وذلك ردا وانتقاما من ما حصل للدول الاوربية من هزيمة ساحقة على يد السلطان الكردي وعلى يد الدولة الايوبية.
&
ويبدو ان النشوة والصحوة والتوهج الكردي لحالة بيقظة الوعي الوطني التي كانت وراء القائد صلاح الدين ووراء ظهور دولته الأيوبية قد تلاشت بعد قرنين من ادامة الدولة، ولم تستثمر لتحويلها الى كيان كردي على مستوى دولة شبيهة بالدول التي اقامها العرب والفرس والترك والتي سادت المنطقة منذ بداية السنة الميلادية، ولهذا تلاشت اليقظة الكردية ولم تعد لها وجود، فتحولت منطقة كردستان وجبالها ومكوناتها القومية والاجتماعية الى ميدان صراعات دموية لقوى اقليمية تصارعت فيما بينها لاسباب توسعية وسلطوية، ونتيجة لذلك دفع الكرد ثمنا باهضا بوجوده وبمستقبل اجياله اللاحقة نتيجة انتزاع يقظة الوعي الوطني من فكره وثقافته وخاصة من عقول الشخصيات القيادية التي تلاحقت على ترؤس المكونات الكردية وخاصة العشائرية والقبلية منها.
&
ويبدو ان الحالة القومية التي انتشرت على نطاق عموم الشعوب الشرق الاوسطية بعد التغييرات الاقليمية والدولية التي سادت المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، قد ساعدت على بروز جديد ونوعي وصحوة لليقظة الوطنية الكردية وتواصلت على مر عقود القرن الماضي، ولكنها لم تثمر عن خلق كيان او وطن او حالة سياسية متميزة الا في العراق، حيث في نهاية الالفية الثانية وبداية الثالثة تم انشاء فيدرالية قومية للكرد بفعل عوامل اقليمية ودولية وعراقية وكردستانية، وتم اجراء الانتخابات ونتج عنها تشكيل ادارة حكومية واقامة سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية، ولكن بنيان الادارة وطوال ربع قرن من عمر الاقليم الفيدرالي لم تستند الى اسس معرفية ومنهجية لقيادة المجتمع والكيان السياسي الشبيه بدولة مصغرة، وكذلك لم تستند الى يقظة الوعي الوطني للفرد والمكونات الثورية التي رافقت الانتفاضة الشعبية بداية التسعينيات، ولم تتواصل بفعل فرض سياسة حزبية صرفة اتسمت باللاوطنية واللامسؤولية لطرفين حاكمين منذ عقدين ونصف من السنين، وماحصل من عمران للأبنية والطرق وتأمين بعض الخدمات الأساسية كان مردها خدمة الرأسمالية الجشعة التي فرضها افراد وعوائل السلطة الحاكمة بالاقليم.
&
وبسبب زوال اليقظة الوطنية توالت سيطرة نزعات فردية وعائلية وحزبية للقيادات والطبقات الحاكمة للاستحواذ المطلق غير الشرعي على جميع الموارد المالية والاقتصادية والتجارية والعقارية والممتلكات العامة للشعب وعلى النطاقين الحكومي والأهلي تم نهبها، وكذلك الاستيلاء التام على جميع مصادر ومنابع الثروات الطبيعية وخاصة النفط والغاز، وهذا النهب والاستيلاء والسيطرة المطلقة المتسمة بالجشع الرهيب والاستغلال والفرهدة نتجت عنها حالة مناقضة تماما ليقظة الوعي الوطني وهي اللاوطنية واللامسؤولية واللاانتمائية واللاابالية واللامعقولية داخل افراد وجماعات المجتمعات السياسية والمالية والتجارية والاقتصادية، وكذلك عمت في أغلب المكونات والشرائح والمجموعات التركيبية والتشغيلية للسلطة وعلى صعيد جميع المستويات والمناصب والمسؤوليات ومازالت مستمرة.
&
وحالة اليقظة اللاوطنية هذه التي سادت الإقليم جاءت نتيجة فرض سياسة عشوائية لا قانونية ولا معرفية ولا منهجية ولا مدروسة للرأسمالية اللاانسانية الجشعة باسم الاقتصاد المفتوح وباسم السوق الحر، والتي لم تستند الى أية نظرية او أساس علمي او حالة قريبة من العقلية السياسية الوطنية المسيرة للاقتصاديات الحرة في منظومة الدول والمجتمعات الديمقراطية الكبيرة والصغيرة، وعلى العكس استندت السلطة الحاكمة الى اتباع سياسة مستنبطة من شريعة الغاب، فغابت وتلاشت المباديء والقيم والمفاهيم الانسانية، وازيلت تماما مفهوم يقظة الوعي الوطني لدى الفرد الكردي وباتت الاغلبية منهم تسيره حالة من اللاهدفية المبنية على غياب الذات، وبينما الأقلية الحاكمة من الساسة واصحاب الاموال ومن الكتل والمجموعات المسيطرة باتت تسيرها حالة من الانانية المطلقة المسندة بغريزة وحشية والمبنية على ذاتية جشعية لا ترتوى شراينها الا بمص دماء الاغلبية الكادحة من شعبنا الكردي.
&
هذا الواقع المؤلم نتج عنه طبقية مقسمة ومفككة للمجتمع ولمكوناته، طبقة اقلية حاكمة متفرعنة بسطوتها وسلطانها ابتلعت كل موارد وقوت الشعب، وطبقة اغلبية تعاني من تأزم الحياة، واقع اتسم بسيطرة فراعنة من الكرد على مقاليد الحكم وزمام امور حياة الشعب فتولد عنه غياب تام ليقظة الوعي الوطني، واقع مسير بحكم فراعنة جدد في مملكة اليشماغ الأحمر وفي مملكة اليشماغ الأخضر، فراعنة نهبوا كل ارض الاقليم بثرواتها ومواردها وممتلكاتها وبحاضرها وبمستقبلها، ووضعوا الشعب امام حاضر متأزم جدا ومستقبل مجهول، وللحقيقة نقول شتان ما بين فراعنة الاقليم والفراعنة القدامى، فالقدامى كانوا خداما لشعوبهم ومجادلين بالحسنة مع انبياء الدعوات الانسانية(**)، اما فراعنتنا فقد ولدوا وفي افواههم ملاعق وأطباق من الذهب وهم باذخون في بروج عالية لا قرب لها ولا تماس مع الشعب.
&
وهنا لابد لي من القول، بالرغم من التقيم الواقعي القاسي الذي ابديته تجاه واقع شعبنا الكردي في هذه الرؤية بسبب غياب يقظة الوعي الوطني في هذه المرحلة الراهنة وغياب الصحوة والوقفة المدنية الثائرة تجاه الجور والفساد النازف والفرهدة الرهيبة للسلطة الحاكمة، الا ان هذه القراءة لا تعني ان الكرد لا يحمل صفات وسمات حميدة، وما يقدمه من بطولات باسلة ووقفة متسمة بالشجاعة النادرة تجاه تنظيم داعش الارهابي وتنظيمات اخرى من خلال البيشمركة والشرفان والكاريلا سجل ناصع للفخر والاعتزاز يعتز به العالم المتمدن وكل الكرد وكل شعب محب للحرية والكرامة.
&
وتوازيا الى ذلك لا غرابة ان قلنا ان الكرد اضافة الى مقاتليه الشجعان يملك بعص من ما لا تملكه الشعوب المجاورة له في الشرق الاوسط، وما يملكه من هذا الأمر يسمح له بقيادة المنطقة من جديد وعلى أسس إنسانية، الا انه في عين الوقت لا يملك قائدا مثل السلطان صلاح الدين يعرف استثمار تلك الصفات، ولا يملك قيادة تمتهن بعقلانية وبمفهومية بارعة صناعة التاريخ، ولا يملك زعامة وطنية بعقلية راجحة ومخلصة ونزيهة ومبدعة ومبصرة وحكيمة تعمل على ايصال الكرد الى بر الأمان.
&
وخير الختام تذكير بوجه فراعنة الكرد وهو القول المأثور ان " الله يمهل ولا يهمل "، والله من وراء القصد.
&
(*) : الامام الخميني قبل نزوله من الطائرة التي اقلته من باريس الى طهران ابان الثورة الايرانية على حكم الشاه محمد رضا بهلوي : ( العرب حكم الاسلام ثمانية قرون، والكرد حكم الاسلام قرنين، والترك حكم الاسلام اربعة قرون، والان حان الوقت لفارس ان يحكم الاسلام ) .
(**) : معاملة الفرعون مع نبي اليهود موسى (ع) لم تتسم بالقمع ولا بالعنف بل اتسمت بالمعاملة الطيبة والمجادلة الحسنة، وكذلك فرعون النبي يوسف (ع) حمى وخدم وانقذ المصرين في فترة القحط والمجاعة بفضل الاستماع والانصياع الى نصائح وتوجيهات واستشارات النبي الذي كان بمنصب الوزير الأول.
&
كاتب صحفي
&