&
الخاطرة الأولى
في 8 يوليو 2009م كتبت مقالة بعنوان "انطباعات حول فضيحة النفقات المالية في مجلس العموم البريطاني" نشرت في جريدة أخبار الخليج البحرينية. كان الموضوع بخصوص المعلومات التي كشفتها في ذلك الوقت صحيفة "ديلي تلغراف البريطانية" عن نفقات اعضاء البرلمان التي ادت الى نشوء حالة من الفوضى داخل مجلس العموم البريطاني، واندلاع ازمة سياسية اطاحت بسمعة الكثير من الاعضاء. وكانت فصول الازمة قد بدأت عندما شرعت الصحيفة المذكورة في نشر معلومات تفصيلية حول الطلبات المالية التي تقدم بها اعضاء البرلمان فيما يخص نفقاتهم على مدار السنوات الأربع الماضية، وكشفت المعلومات التي نشرتها الصحيفة عن إساءة المئات من اعضاء البرلمان الى نظام النفقات، حيث طالبوا بالحصول على آلاف الجنيهات من دون وجه حق.
الوثائق التي نشرتها الصحيفة كانت تشير الى ان المكتب البرلماني المكلف بفحص النفقات تواطأ في بعض الترتيبات الاستثنائية التي اتخذها اعضاء برلمانيون. كما بدا واضحا ان رئيس مجلس العموم وقتها "مايكل مارتن" قد وافق على الكثير من الطلبات المالية المثيرة للجدل وحاول إعاقة اصلاح نظام البدلات المالية، وقد أجبر على الاستقالة بعد فشله في إسترضاء مجلس العموم بتقديمه الاعتذار، وهي المرة الأولى التي يجبر رئيس المجلس على الاستقالة منذ عام 1695م.
الرأي العام البريطاني اتخذ موقفا موحدا من الاعضاء المتورطين لأنهم إستفادوا من غير وجه حق بإسم القانون من اموال دافعي الضرائب. الرأي العام قرر معاقبتهم، وكانت النتيجة استقالة او إقالة اكثر من وزير، وتجميد عضوية الكثير من الاعضاء في الحزبين الرئيسيين "العمال والمحافظين"، وإرغام الكثير من الاعضاء المتورطين على إعادة المبالغ غير القانونية &والإعتذار الى الشعب. كما شكل الحزبان لجنة تدقيق في كل منهما للنظر في موضوع خرق القوانين، وكل عضو ثبت انه أساء التصرف طلب منه ألا يترشح للإنتخابات المقبلة. وهذا لعمري هو التصرف الحضاري للشعوب الحية والمتحضرة. & &
&
الخاطرة الثانية
في 19 مايو 2010م كتبت مقالة بعنوان "نعم – إنها حقا أم الديمقراطيات العريقة" نشرت في جريدة أخبار الخليج البحرينية، كانت تلك المقالة عن كيفية انتقال السلطة من حزب العمال الذي حكم بريطانيا مدة 13 سنة الى حزب المحافظين بالتحالف مع الديمقراطيين الأحرار. المقالة كانت تلخيصا لمراسم انتقال السلطة التي كانت تبث حية على الهواء مباشرة عبر تلفزيون الـ "بي بي سي". البداية كان توجه "جوردن براون" بسيارته الى قصر باكنجهام لتقديم استقالة حكومته الى الملكة "إليزابيث الثانية"، وبعد عقد اجتماع مع الملكة استغرق زهاء 25 دقيقة، خرج "براون" من الاجتماع معلنا قبول الملكة استقالة حكومته، وتوجه مباشرة الى مقر حزبه "العمال" حيث عقد مؤتمرا صحفيا شكر من خلاله اعضاء حزبه وحكومته ، وتمنى التوفيق والنجاح لرئيس الوزراء الجديد، واعلن استقالته من رئاسة الحزب، وتحمله شخصيا مسؤولية الفشل في عدم الحصول على الأغلبية التي تمكن حزبه من البقاء في السلطة.
في الوقت الذي غادر فيه "براون" القصر الملكي، كان "ديفيد كاميرون" في طريقه لمقابلة الملكة لتكليفه بتشكيل الحكومة البريطانية الجديدة. وبعد اجتماع مع الملكة لم يستغرق اكثر من 25 دقيقة، خرج "كاميرون" ليعلن قبوله تشكيل حكومة جديدة، وتوجه مباشرة الى مقر الحكومة في 10 داونينغ ستريت حيث عقد مؤتمرا صحفيا مشتركا مع نائبه وشريكه في الحكم "نك كليغ" زعيم الديمقراطيين الأحرار، اعلنا فيه الخطوط العريضة لبرنامج حكومتهما للخمس سنوات الأولى، وقدما الشكر لرئيس الوزراء المنصرف. اعجبني قول المعلق التلفزيوني حين قال: "دخل براون القصر الملكي رئيسا للوزراء وخرج منه مواطنا عاديا، ودخله كاميرون مواطنا عاديا وخرج منه رئيسا للوزراء".
الخاطرة الثالثة
شهدت العاصمة البريطانية "لندن" الاسبوع الماضي مظاهرات كبيرة، بعد فضيحة رئيس الوزراء "ديفيد كاميرون" المرتبطة بما يعرف "وثائق بنما"، وصلت الى حد المطالبة بإستقالته. وبعد أربعة ايام وأربعة بيانات مختلفة بخصوص ورود اسم والده الراحل في الوثائق، اعترف "كاميرون" اخيرا انه كان يمتلك يوما حصة في صندوق خاص بوالده للمعاملات الخارجية (أوفشور) وأنه ربح من هذا الصندوق، كما اعترف انه لم يحسن التصرف في مواجهة موضوع حساس كهذا الموضوع، اي التهرب من دفع الضرائب، حيث قال: "لم يكن اسبوعا عظيما، اعرف انه كان ينبغي ان اتصرف مع الأمر بطريقة افضل. اعرف ان هناك دروسا يمكن استخلاصها وسوف اتعلم منها".
وفي خطوة غير مسبوقة في التاريخ البريطاني، كشف "كاميرون" يوم الأحد من الاسبوع الماضي عن بياناته الضريبية للسنوات الست الأخيرة، وذلك بهدف استعادة المبادرة في هذه القضية الحساسة التي اعترف بأنه لم يحسن التعامل معها منذ البداية. كما يهدف "كاميرون" من اتخاذ هذه المبادرة لإثبات انه لم يسع يوما ما الى التهرب من دفع الضرائب.
في أم الديمقراطيات، المال العام له حرمة، والتهرب من دفع الضرائب جريمة كبرى يعاقب عليها القانون. في أم الديمقراطيات، لا توجد فترة انتقالية للسلطة ولا مجال لحدوث فراغ سياسي حيث يتم تشكيل الحكومة خلال 24 ساعة. في أم الديمقراطيات، لا مجال للصفقات السياسية السرية بين الأحزاب، كما ان زعيم الحزب الخاسر في الانتخابات يتحمل المسؤولية الكاملة عن الخسارة، ويستقيل من زعامة الحزب وربما من العمل السياسي بأكمله ليعطي فرصة لوجوه ودماء جديدة تقود الحزب لمستقبل افضل.
الساسة في أم الديمقراطيات لا يتمسكون بالسلطة مدى الحياة، ولا يتقاتلون مع بعضهم البعض من اجلها، فهي تكليف وليست تشريف، وهي خدمة للشعب وليست منة عليه، والقرار اولا واخيرا للناس يتخذونه عبر صناديق الاقتراع كل خمس سنوات. الدستور البريطاني غير المكتوب يعتمد على اعراف وتقاليد ديمقراطية راسخة تراكمت عبر مئات السنين، ولا يمكن تفسيرها او تأويلها بطريقة مزاجية ومن كل حزب سياسي لخدمة اهدافه.
بعد كتابة هذه الخواطر، اكاد ابكي حزنا على اوضاعنا في العالم العربي الموبوء بكل الموبقات من تسلط وفساد وإفساد ونهب المال العام، وشعوب تعامل كقطعان الماشية لا رأي لها فيما يخص تسيير امورها ومستقبل اوطانها. & &&
&
التعليقات