&
السلوك العنيف و سفك الدماء ليس بذلك المشهد الغريب عن المخيال الجماعي للأتراك، ذلك أن الشعب التركي ينحدر من قبائل بدوية محاربة خشنة استوطنت منطقة آسيا الوسطى المطلة على بحر قزوين، و في القرن 10 جلبهم خلفاء بني العباس و احترفوا الحياة العسكرية، وعينوهم جنودا في شمال العراق و الشام من أجل صد الأخطار البيزنطية. و تجذر السلوك العسكري في الهوية التركية بقوة في عهد الإمبراطورية العثمانية، التي سلبت العرب القرشيين حق الإستئثار بالخلافة الإسلامية، إذ نقلوها إلى سدة الباب العالي بإسطنبول في القرن16.
&
لولا الغزوات و حد السيف لما امتدت تلك الإمبراطورية من الجزائر غربا حتى الخليج العربي شرقا. و حين يبحث المؤرخ عن أصالة الحضارة التركية العثمانية، يكتشف أنها ليست من الحضارات الأصيلة، ذلك أنها قائمة على التقليد و المزج بين المؤثرات العربية والفارسية و اليونانية والقوقازية و البلقانية. وعلى المستوى الحضاري لم تنجب الحضارة العثمانية مفكرين عظماء من حجم الفيلسوف العربي "الكندي" أو "إبن رشد" الفيلسوف المغربي، ماعدا مخلفات من التراث الديني المليء بالبدع الصوفية و مآثر تاريخية مزجت بين العمارة العربية والفارسية و البيزنطية. وحين أضحى الرجل العثماني المريض يحتضر و يصارع من أجل البقاء، بعد أن توالت هزائمه في الحرب العالمية الأولى، برز الجندي المتعصب للقومية التركية "مصطفى كمال أتاتورك" كمنقذ للأمة التركية من الضياع، فعقب توليه منصب رئيس الوزراء في1920، انقلب على شرعية الخلافة العثمانية وأطاح بعرش الخليفة "محمد وحيد الدين" في1922، وفي 1924 ألغى نظام الخلافة الإسلامية وأعلن قيام جمهورية تركيا بمضمونها القومي و شكلها الحداثي العلماني، مما أثار موجة استهجان في أرجاء العالم الإسلامي من قبل رجال الدين. لعل "مصطفى أبو الأتراك" أول من دشن لعهد الإنقلابات العسكرية في تاريخ تركيا المعاصرة.
&
عهد تواصلت فيه حلقات مسلسل الإنقلابات العسكرية بالجبروت نفسه، في دولة فرضت نفسها بالقوة على الديمقراطية بينما شعبها متشبع بقيم تقليدية محافظة قائمة على الطاعة و الإنصياع الأعمى لنظم و عادات قروسطية. ففي 27 ماي 1960 قام الجنرال" جمال جورسيل" بأول انقلاب عسكري مكتمل الملامح، حيث اجتاحت الدبابات شوارع المدن التركية و أطاح بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا و فرض نظاما ديكتاتوريا قائما على تصفية المعارضين و الإرهاب البوليسي و مصادرة حرية التعبير و منع التعددية الحزبية. في 12مارس1971صدم الأتراك المقموعون آنذاك بإنقلاب آخر من دون ضجة الآلة العسكرية، حيث أرسل قادة الجيش مذكرة فرضت حالة الطوارئ بالبلاد لذلك عرف ذلك الإنقلاب" بإنقلاب المذكرة". و في12سبتمبر1980 وقع انقلاب دموي بقيادة الجنرال "كنعان إفرين". و بحكم المرجعية العلمانية للجمهورية التركية دفعت المعارضة أميرال القوات البحرية التركية "سالم درفيسوجلو" للقيام بإتقلاب أبيض المعروف تاريخيا "بإنقلاب ما بعد الحداثة" على الحكومة الإسلامية "لنجم الدين أربكان"، مما أرغمه على الإنسحاب من الحكم في 1997. بعد مرور أربع سنوات رتب التيار الإسلامي أوراقه وأسس حزب العدالة والتنمية التركي الإسلامي غير المناهض للغرب الليبرالي و المؤمن باقتصاد السوق الرأسمالي. وفي 2002 حصل هذا الحزب الظاهرة على ثقة الناخبين الأتراك، و بالفعل استطاع زعيمه" طيب رجب أردوغان" أن يخرج تركيا من أزمة اقتصادية و اجتماعية خانقة، كما انتشل الأتراك من بؤس الفقر موفرا لهم فرص العمل و تنمية حقيقية، و حول تركيا في مدة زمنية وجيزة إلى قوة اقتصادية صاعدة، لينجح الإسلاميون الأتراك فيما فشل فيه خصومهم العلمانيون، وكان ذلك سببا لكي يكسب ثقة غالبية الأتراك على اختلاف إيديولوجياتهم، و استمر حزب العدالة و التنمية في قيادة قاطرة الحكم في تركيا التي أخرجها من غياهب النسيان وجعلها لاعبا رئيسيا في العلاقات الدولية بالعالم. بيد أنه و بعد أن اقتنع الشعب التركي أنه قطع مع مرحلة الإنقلابات العسكرية من دون رجعة، و أنه سيمضي قدما في تجربته الديمقراطية النموذجية بالعالم الإسلامي.
&
صدم الأتراك و معهم معظم شعوب العالم بالمحاولة الإنقلابية التي دارت أحداثها بتركيا مساء الجمعة15يوليو2016. و إذا قمنا بتشريح هذه المحاولة الإنقلابية وفق رؤية عراب السياسة الحديثة "نيكولا مكيافللي"، الذي اعتبر بعض الإنقلابات مجرد مسرحية يفتعلها الأمير ليجد مبررا يقنع بواسطته الرأي العام بضرورة التخلص من معارضيه. و هكذا ففشل الإنقلاب في تركيا من وجهة نظر مكيافيللية، ترجح فرضية أن يكون من سيناريو و إخراج "أردوغان". الذي يخطط و منذ أمد بعيد لإحياء أمجاد الخلافة العثمانية، و تحويل تركيا من جمهورية علمانية إلى جمهورية رئاسية اسلامية حديثة، يسود فيها الرئيس و يحكم بقبضة من حديد، و لكي يحقق هذا الحلم يلزمه التخلص من معارضيه العسكريين و العلمانيين و القوميين و الأكراد و حتى الإسلاميين ك"فتح الله جولان" المقيم بالإكراه في أمريكا. الذي حمله مسؤولية ما جرى مساء الجمعة الماضي. بينما الأخير نفى أي ضلوع له في تلك الواقعة. التاريخ هو الذي سيكشف حقيقة هذا الإنقلاب الفاشل، لكن تركيا ذات السجل الحافل بالإنقلابات العسكرية، تمضي نحو مستقبل كله توتر وسيكون الشارع هو الفاصل على غرار ما حصل ليلة الجمعة. ذلك أن تركيا لا تعيش بمفردها معزولة في هذا العالم، و أمريكا تنظر بقلق للصعود الاقتصادي السريع لتركيا الذي حولها إلى القوة الإقتصادية 16بالعالم و 8 بأوربا و الأولى بالشرق الأوسط. لذلك قد يأتي يوم تجتاح فيه عاصفة الفوضى الخلاقة الأمريكية الأراضي التركية، حينها قد تقسم تركيا لمناطق خاصة بالأرمن و الأكراد والترك و العرب و تسترجع اليونان أراضيها التاريخية، وقد يتحول الأتراك إلى لاجئين في أوربا، و تستحيل أحلام "أردوغان" إلى أوهام، و سيظل "أردوغان" مطاردا بانتقادات و مكائد و محاولات التخلص منه من طرف المعارضة الداخلية و الخارجية. بالأمس أظهر الشعب التركي نضجه السياسي و تخلصه من اٍرثه الدموي و انتصر للتوجه الديمقراطي رافعا شعار الحرية و السلام في وجه دبابات القمع و الإستبداد. ليعطي بذلك درسا رائعا لعرب الربيع العربي الذين نشروا الفوضى و الدمار في بلدانهم ليحيلوها إلى بقايا أطلال آيلة للسقوط. بالمقابل فمن حقنا نحن العرب أن نعاتب تركيا لأنها كانت ثاني بلد اسلامي يعترف بالكيان الصهيوني في1949 بعد إيران في1948، و قبل أسابيع قليلة جدد "أردوغان" اتفاق التطبيع و السلام مع الرئيس الصهيوني "موشي كاتساف". كما أن سطوة الأتراك كانت من بين أسباب تخلف العرب خلال فترة الإحتلال العثماني للبلاد العربية ما بين القرن16 ومطلع القرن20. و يتوجب على العرب المنتشين بغباء بتحركات الرئيس التركي في الساحة العربية خاصة في الساحة الفلسطينية، العودة لأبجديات حزب العدالة والتنمية التركي، الذي جعل من التاريخ العثماني الإسلامي مرجعيته الإيديولوجية، وحين نقول احياء أمجاد التاريخ العثماني فهو تعبير مجازي، نقصد به طموحات تركيا كدولة في بسط نفوذها الإقتصادي والثقافي في مجالها العربي، وهذا من حقها طبعا مادامت كل القوى تتصارع فيما بينها من أجل ضمان مصالحها بالمنطقة والعرب في غفلة من أمرهم. ما يميز شخصية "أردوغان" أنه بارع في التلاعب بمشاعر العرب و الفلسطنيين خاصة، لحظة دفاعه عن فلسطين والقدس لكسب المزيد من المتعاطفين والأنصار سواء داخل صفوف الأتراك ذوي التوجه الإسلامي أو في بلدان العالم العربي و الإسلامي. وإذا كان "أردوغان" صادقا في نوياه، لم جدد التطبيع مع الصهاينة؟
&
و هل هو مستعد لإلغاء هذا الإتفاق والإنصات لجرح العرب و الفلسطينيين بدل الإنصات لمصالحه و مصالح الأتراك الحيوية في المنطقة؟. بالإضافة إلى ذلك جاهل من ينكر الطموحات التوسعية لتركيا في المشرق العربي، وإذا كان الواقع عكس ذلك فماذا تفعل القوات التركية في شمال العراق وسوريا؟ هل تحارب الأكراد؟ هل تحارب داعش؟ ومن يمول داعش؟. فمن بين عوامل توتر العلاقات الروسية التركية، اماطة الرئيس الروسي اللثام عن لائحة الدول المدعمة لداعش و كانت من بينها تركيا. التي تدرك جيدا خطر مشروع اعادة رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد الذي سيطال المنطقة، لذلك ستفعل أنقرة المستحيل للدفاع عن أراضيها، بل و تطالب علانية اليوم بحقوقها الترابية في شمال سوريا و منطقة الموصل العراقية بحكم وجود أقلية تركمانية هناك، و ترعبها بشدة طموحات الأكراد التوسعية.علينا أن نعترف بأن" أردوغان" حول تركيا إلى قوة اقليمية و قوة اقتصادية صاعدة لها ثقلها بالعالم، مثلما علينا أن نعترف بأن تركيا تحركها مصالحها الاقتصادية والترابية التي تدافع عنها ولا يهمها التطبيع مع الصهاينة، كما لا يهمها دغدغة مشعار العرب والمسلمين والكذب عليهم لحظة رفعها بطاقة فلسطين في المنابر الدولية من وقت إلى آخر. كما لا يحق للعرب التضرع إلى رب العالمين كي ينجح الإنقلاب، لأن ذلك تأكيد على أننا شعوب معادية للديمقراطية و تعاني من الماسوشية لدرجة ادمان جلد الذات. مثلما لا يحق لنا أن نقبل بعبادة الصنم التركي و نتوكل عليه في حل أزماتنا، و نغض الطرف عما فعله بنا في الماضي إبان عهد سياسة التتريك العنصرية،و نسلمه اليوم رقابنا وهو يضع يده مباشرة أمام المجتمع الدولي في يد قادة الكيان الصهيوني.&
&
&الدار البيضاء /المغرب