&

قبل حوالي اسبوعين، تداول الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي صورة، التقطها احد المارة، لرئيس الوزراء البريطاني السابق "ديفيد كاميرون"، جالسا على رصيف في منطقة كورنال الساحلية، يتناول وجبة سريعة من السمك وحبات البطاطس بعد قضاء وقت على الساحل.&

ما اثارني ودعاني لكتابة هذه المقالة ليس وجود "كاميرون" في هذه المنطقة، فهذا حقه الطبيعي كمواطن بريطاني ان يستمتع بالأماكن الجميلة والمريحة في وطنه. ما اثارني هو التعليق المرفق مع الصورة، الذي يقول:

"السلطة علامة فارقة في حياة البشر، فقبل عدة اشهر كان "كاميرون" هو الرجل الأقوى في بريطانيا، رئيس الحكومة الذي يتحرك محاطا بمساعدين وحاشية، ويتبعه جيش من الاعلاميين الجائعين والمتعطشين الى حركاته وسكناته، ولكن "كاميرون" البالغ 49 عاما بدا على الجانب الآخر من الصورة شخصا غاية في البؤس، يجلس منكسرا، حافي القدمين، والأقسى من ذلك، النظرة الحائرة البائسة التي بدت في عينيه وهو يحدق في المجهول. والى جانب "كاميرون" جلس غرباء لا يلتفتون اليه على الاطلاق ربما عن جهل او تجاهل، ولا يدركون انهم يجلسون على بعد خطوات من "كاميرون"، وهو ما كان حلم اثناء وجوده في مقر الحكومة البريطانية في 10 داوننغ ستريت".

لا اعرف من كتب هذا التعليق، واحترم وجهة نظره، ولكني اخالفه الرأي في وصفه "كاميرون" بالبائس والمنكسر والحائر لكونه استقال من رئاسة الوزراء بكامل ارادته. كان بإمكان "كاميرون" البقاء في منصبه حتى نهاية ولايته حيث لا يوجد اي عائق دستوري او قانوني يمنعه من ذلك، وكان بإمكانه كذلك ان لا يجري الاستفتاء حول بقاء بريطانيا او خروجها من الاتحاد الأوروبي، ولكنه كان قد قطع وعدا على نفسه بإجراء هذا الاستفتاء خلال حملته الانتخابية لولاية ثانية، تحقيقا لرغبة مجموعة من الشعب البريطاني لا يستهان بعددها، ولإنهاء الجدل بين الفريق المؤيد لبقاء بريطانيا والفريق الذي يطالب بخروجها من الاتحاد، ولم يكن الاستفتاء حول مستقبل اي سياسي بريطاني بما فيهم هو نفسه.

بتلك الاستقالة، دلل "كاميرون" على اسباب تقدم المجتمعات الغربية، فالرجل لا يتشبث بالسلطة لأنها اصبحت ضد اسلوب عمله وقناعاته وافكاره، ويترك الفرصة في القيادة لغيره من السياسيين حتى تنجح بلاده في التعامل مع ما يقرره الشعب.&

ربما من المفيد ان نذكر القراء العرب، وخصوصا الجيل الذي ولد في بداية السبعينيات من القرن المنصرم، اي الشريحة التي في منتصف العمر حاليا، بالرئيس الفرنسي السابق الجنرال "شارل ديغول"، محرر فرنسا من الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية، وباني فرنسا الحديثة، ومؤسس الجمهورية الخامسة.&

قرر "ديغول" في عام 1969م اجراء استفتاء حول اصلاحات ينوي القيام بها في مجلس النواب وبعض الاصلاحات التشريعية الأخرى، وفقا للمادة (11) من الدستور الفرنسي، وحدد موعد الاستفتاء في 27 ابريل من العام نفسه. صرح "ديغول" وقتها انه ان لم يحصل على موافقة الأكثرية من الشعب سوف يستقيل من منصبه، وظن الكثيرون يومها انه بتصريحه ذاك يلتمس العاطفة الشعبية لقبول اقتراحاته الاصلاحية من الشعب.&

في اليوم التالي، 28 ابريل، كانت نتيجة الاستفتاء: 52.41% قالوا "لا"، مقابل 47.59% قالوا "نعم"، وعليه سقط الاستفتاء. حبست فرنسا انفاسها لترى ماذا سيكون قرار محرر فرنسا، بعد عشر دقائق من منتصف الليل صدر بيان موجز من سطرين، سمعه الفرنسيون والعالم، جاء فيه: "اعلن توقفي عن ممارسة مهامي رئيسا للجمهورية. يصبح هذا القرار نافذا عند ظهر اليوم، 29 ابريل 1969م". كان ذلك صوت الجنرال "ديغول"، وساد صمت ووجوم في فرنسا والعالم. قالت الأغلبية "لا" للاصلاحات التي يريد اجراءها، فانحنى احتراما لإرادة الشعب والمحافظة على الإرث الحضاري لفرنسا، وانسحب بهدوء.

كان بإمكان كل من "شارل ديغول" و "ديفيد كاميرون" البقاء في منصبيهما حتى نهاية ولايتيهما، حيث لا توجد اي عوائق دستورية او قانونية تمنعهما من ذلك، ولكنهما اختارا المبادئ الديمقراطية التي يؤمنون بها بدلا من السلطة التي يعرفون انها لن تدوم. لذلك دخل "ديغول" التاريخ الفرنسي من اوسع ابوابه، وفي يوم ما في المستقبل، ربما يكتب الشيئ نفسه عن "كاميرون" في التاريخ البريطاني.

في الدول الغربية الديمقراطية، عندما يغادر الرؤساء مناصبهم الرسمية يعودون لممارسة حياتهم الطبيعية ويستمتعون بها من غير عقد نفسية، لأنهم يعرفون مسبقا ان الرئاسة لن تدوم لهم اكثر من ولايتين (او ثلاث في احسن الحالات في النظام البرلماني)، ثم تنتقل الى اشخاص آخرين. هذه سنة الحياة التي تقول: لو دامت لغيرك ما آلت اليك.&

بعض الرؤساء يتفرغون لممارسة هواياتهم المفضلة، كممارسة الرياضة، وتأليف الكتب او كتابة مذكراتهم، والقاء المحاضرات، وبعضهم يعملون مستشارين للشركات الكبرى في بلادهم، او ممثلين ومستشارين للأمم المتحدة في بعض القضايا الدولية.&

عانت الشعوب الاوروبية من حربين عالميتين، راح ضحيتهما معا ما يقارب الثمانين مليون شخص، اضافة الى الدمار الهائل الذي حل ببلادنهم. تعلمت الشعوب والاحزاب السياسية التي تمثلها والزعماء السياسيين ان الشعوب هي مصدر السلطات، وارادتهم هي الأهم والأقوى، وان لا صوت يعلو فوق صوتهم.&