شكّلت نتائج الانتخابات الرئاسية علامة بارزة في تاريخ تونس بعد ثورة الياسمين ومفصلا مهمًّا في تطور المسار الديموقراطي فيها، حيث أثار فوز أستاذ القانون قيس سعيد بنسبة فاقت الثلثَيْن وتجاوزت 70%، العديد من التساؤلات العميقة التي تعكس تحولا حقيقيًّا و صفعة لكافة النخب المعهودة التي احتلت المشهد السياسي خلال الاعوام التسع الماضية.

فالرجل الذي لم يكن معروفًا بالأواسط الشعبية - على الأقل قبل الجولة الأولى من الانتخابات - كما لم يكن مشهورًا في المحافل الاعلامية ، أصبح رئيس تونس التي تُعد الديموقراطية الوحيدة التي ولدت بعد مرحلة "الربيع العربي"، وبذلك فإن النتائج أعادت الآمال للشباب التونسي الذين أثبتوا مجددًا أنهم قادرون على التغيير إن اتيحت لهم فرصة حقيقية في الاختيار الحرّ عبر صناديق الاقتراع. كما أيقظت أحلام الشباب العربي الذي يقبع في منطقة تغرق في الحروب الدامية والفقر والفساد المالي والاداري، فيما يسيطر على معظم دولها أنظمة ديكتاتورية، أو تركيبة حكم قائمة على المحاصصة الطائفية أو العشائرية، أم تديرها ملكيات مطلقة لا مجال لإعمال الديموقراطية فيها.

إذن فإن المشهد الغير متوقع الذي أفرزته الجولة الأولى من الانتخابات حصرت المنافسة بين قيس سعيد الذي حصل على نسبة 18.4% ونبيل القروي رئيس حزب قلب تونس بنسبة 15.58% من أصل 26 مرشحًا. وكلاهما شخصين من خارج المؤسسة السياسية،الأمر الذي عكس بشكل واضح لا لبس فيه "قرف" الناخب التونسي وازدراءه للمؤسسة السياسية والأحزاب الحاكمة والمتحكمّة التي عجزت عن حل مشكلات الشعب الحقيقية المتمثلة بزيادة الأسعار وارتفاع معدلات البطالة وغياب الفرص.

وقد اعتمد قيس سعيد على وسائل بسيطة ومباشرة في التواصل مع الناخبين متنقلا بسيارته المتواضعة بين القرى، فهو لم يقد حملة دعائية بالمعنى الفعلي لقلة موارده المالية، حيث اقترض المال ليسجل اسمه في قائمة المرشحين ، واستعان بمجموعة متطوعيين من الشباب الذين عمل معهم في مكتبه الانتخابي الصغير.

أما رجل الأعمال نبيل القروي فقد كان يقود حملته الانتخابية من زنزانة السجن الموقوف فيها على ذمة قضية تبييض أموال وتهرب ضريبي ليُفرج عنه مؤخرًا قبل موعد الانتخابات النهائية بأيام ويظهر في مناظرة تلفزيونية قدم نفسه فيها على أنه زعيم شعبي يدافع عن الفقراء والمحرومين الذين تجاهلتهم المؤسسة السياسية.

نعم، ثمة أمور كثيرة وعديدة أدّت الى فوز قيس سعيد، حيث يرى منتقدوه أن وصول القروي إلى الجولة الثانية جعل فوزه شبه محسومًا، كون بعض الناخبين أصبحوا أمام خيارين لا يريدونهما على الحقيقة، وكأن نتائج الانتخابات عكست رفض الشارع التونسي للقروي لا فوزًا كاسحًا لسعيد.

وفي هذا السياق لا بد من الاشارة الى نقاط عدة أهمها ":

أولا : أكدت نتائج الانتخابات أن فئة الشباب هي المحرك الرئيس في العملية الانتخابية، حيث جذب قيس سعيد هذه الفئة التي كانت عازفة عن الانتخابات، وتعتبرها "مجرد تمثيلية و مسرحية" لإعادة إنتاج منظومة الحكم السابقة نفسها، فالشباب التونسي سئم خداع البرامج الانتخابية الخالية من المصداقية والشعارات البراقة دون خطوات عملية جادة.

لذلك فإن قيس سعيد لم يقدم برنامجًا انتخابيًّا واضحا وهو قد علل ذلك بالقول بأنه "لا يريد بيع الأوهام" لأن "الشعب سئم الوعود"، بل طرح على الشباب فكرة تمكينهم من خلال تحسين شروط حياتهم بالوسائل القانونية حيث وصف حملته بأنها "تفسيرية " . فقد أحب فيه الشباب صورة الرجل الزاهد الأصيل الوفي لمبادئ الثورة.

ثانيًا : شكلّ فوزه ضربة قوية لكافة الأحزاب الحاكمة والمعارضة على حدٍّ سواء، التي فشلت معظمها في تحسين الوضع المعيشي على أرض الواقع، فيما تحولت السجالات السياسية بينها الى مادة دسمة لتبادل الاتهامات، دون ان يرافق ذلك اهتمام فعليّ بقضايا المواطن اليومية. كما أن بعض الاحزاب لم تقدم قراءات جادة لخطابها السياسي او تواكب التطوير الحقيقي لنبض الشارع، في وقت سئم فيه الناس اقحام الايديولوجي والديني بالعمل السياسي.

ثالثًا : يقدم سعيد رؤية مغايرة لعمل البرلمان حيث يقترح انتخاب مجالس محلية وممثلين عنها "من أجل ايصال رغبة الشعب للسلطة المركزية ووضع حد للفساد".فقد كشف عن عزمه على تكريس الحكم المحلي بتعديل الدستور وإشراك المواطنين في صنع القرار عبر الاستفتاء.

وبالتالي فقد طمأن إلى حدٍّ بعيد الشريحة المستقلة التي لا تريد أن تنضوي تحت رايات الأحزاب أو لا ترغب في الاصطفافات السياسية، فيما تريد بالوقت عينه الحصول على خدمات أكبر ومساحة أوسع من الحرية تحول دون تحكم الكتل النيابية بصناعة القرار.

رابعًا : كشفت النتائج عن حذر شريحة من الناخبين ، فعلى الرغم من أن سعيد يقدم نفسه على أنه "مستقل عن كل تبعية " وان مرجعه هو "الدستور التونسي " لا غير، وانّه لا يستند إلى مرجعيات دينية خطاباته، فإن كثيرين يقابلون فوزه بترقب وحذر كونه يُعدّ رجلا "محافظا " ذو ميول "يسارية"، كما يتخوّفون من نزعته الراديكالية الرافضة للمساواة بالميراث والرافضة لإلغاء عقوبة الإعدام وعقوبة المثلية الجنسية، مع ما يمثل ذلك من انتكاسة لجهة إقرار الحقوق المدنية وترسيخ مبادئ العلمانية.

أخيرا، لا شك أن تونس تقدم نموذجًا ديموقراطيًّا مشرقًا في المنطقة العربية، بغض النظر عن "الفائز"، لأنها هي الضمان الأول لعدم الانزلاق الى فخ الديكتاتورية مجددا ؛ كما أنه من حقّ البعض الترقب والحذر لا سيما عند شريحة من العلمانيين أو ذوي التوجهات اليمينية الذين كانوا يرغبون بوصول مرشح أكثر ليبرالية . وربما الأيام القادمة ستكشف عن تحديات حقيقية لا سيما وان البرلمان التونسي تتنازعه أحزاب سياسية شتى، مما سيتطلب عملا دؤوبًا لتشكيل تحالف للحكم. ومهما كانت نتائج الانتخابات الديموقراطية ومهما كانت الصعوبات التي ستواجهها تبقى أفضل من ديكتاتور يدوم.