إنها إنتفاضة&"أجّلها"&الشعب العراقي لأكثر من عقد من السنوات على أمل أن يدرك&هؤلاء السياسيون القادمون&من&الخارج ويتوقفوا عن الفساد لكنهم أوغلوا&وتمادوا&في الإستخفاف بعقول الناس&وذر الرماد بعيونهم&وخداعهم بمختلف الشعارات&وتخديرهم بالوعود،&فخرج المارد العراقي من قمقمه منتفضاً ليقول كلمته لمنظومة الفاسدين:&كفى&يعني كفى!&فقد طفح الكيل&وانتهت صلاحيتكم!
عانى العراقيون&من ويلات الحروب&في&الثمانينات&والحصارالإقتصاديفي تسعينات القرن الماضي&الذي فُرضَ&عليه بحيث ادى إلى تجويعه وأصبح مستعداً لتغيير النظام باي ثمن،&ويصدق بأي وعود من أجل الخلاص من العبودية والإنتقال إلى الديمقراطية&فتقبلوا على مضض هؤلاء "الساسة" القادمين مع المحتلين.
أصبح العراق ساحة مفتوحة لقوى سوداء معروفة بسياسة "فرّق تَسُدْ" وألاعيبها وخبرتها&الكبيرة في إستخدام الإعلام التي طبقوها سابقا في فيتنام وأميركا اللاتينية، إضافة إلى كل وسائل التواصل الإجتماعي من أجل بث التفرقة والإقتتال&فشغلوا العراقيين بالحروب الأهلية مع القاعدة ومشتقاتها.
مع الأسف تمكنت هذه القوى&من بث سموم التفرقة بين العراقيين فعمدوا على تأجيج الإختلافات الطائفية والعرقية بإسم الديمقراطية فصاروا يروجون لمفهوم الشعوب والطوائف العراقية&وشجعوا على ترسيخها دستوريا فجاء الدستور العراقي&الملغوم&مليئا بهذه السموم. وحدثت حرب أهلية طائفية حصدت آلاف العراقيين قتلوا على الهوية، كادت أن تقسم الشعب العراقي تماماً لولا هذه اللحمة القوية بينهم التي جعلتهم يرفضون تقسيمهم على أساس شيعة أو سنه او من أديان أخرى&كما ظهر ذلك جليا في الإحتجاجات الحالية.
لا أنكر وجود إختلافات مذهبية بين الشيعة والسنة والكورد والعرب لكنها لم تصل إلى درجة الصراعات والإقتتال وانعدام&الثقة بين المواطنين العاديين الذين يعيشون جنبا إلى جنب ويتضامنون في السراء والضراء، إلا أن الإحتلال جاء&بنظام المحاصصة&ليقسم الشعب العراقي ويساند طرفاً ضد الآخر حسب الظروف والحاجات.
واليوم وبعد ست عشرة&سنة من الحكم "الديمقراطي"&والوعود&لم يَنعَمْ اغلب مواطني الشعب العراقي وبخاصة الشباب لا بالأمان ولا العمل، ولم يَرَ أي إنجازات يفتخرُ بها، لكنه بالمقابل يسمع&باستمرار نقاشاتٍ طائقيةً مملة عن المحاصصة وقصصاً&مهولة ومرعبة عن الإغتيالات&والإختطافات&والتفجيرات والإتجار بالبشر وجرائم الفساد&والأزمات السياسية وتزوير الشهادات والإنتخابات وبيع الوظائف الكبيرة بالملايين ومافيات العائلات&التي تسيطر على&مناصب&الدولة&ووظائفها العليا&وإمتيازات النواب والوزراء وكل الطبقة السياسية.
أصبحت جيفَة&بعض&المسؤولين العراقيين ونتانتهم تزكم الأنفاس، لدرجة أن&وسائل التواصل الاجتماعي زاخرة بالمواد التي تتهكم بهم وتسخر منهم وملياراتهم&المسروقة من قوت العراقيين الفقراء والمساكين، بل إن منهم من يتبجح بكل صراحة بالجاه والفساد وسوء استخدام منصبه بسخرية وتهكم!
من المؤسف أن العراق يقع بين المطرقة والسندان، فأميركا تريده&خاصاًبها&بعيدا عن الصين وروسيا و&إيران،&التي&تريده&أن يساعدها &في&تحقيق مصالحها القومية والأمنية والتخلص من العقوبات الأميركية المفروضة عليها،&ولن تتورع&جارتنا الأخرى&تركيا&يوما إذا ما سنحت لها الفرصة لضم&الموصل وكركوك&إذا ما عمت الفوضى&أو تفكك&العراق كما يتوقع بعض المروجين لهذه الفكرة،&وإذا ما&شعرت بالخطر يداهم أمنها،&لكن هيهات،&فقد قالها العراقيون الشرفاء: عراق سنه وشيعه، أبد ما نبيعه!&ولهذا على الثوار أن يعوا دورهم جيداً ويحافظوا على ثورتهم من السرقة واللصوص!
هذه حقيقة وليست مبالغة،&العراق بلد له دور خاص،&ومن سوء حظه أنه يقع بين&عدة بلدان لا يمكن أن يكون ضعيفا بينها&وإلا فسيقع فريسة لها! العراق بلد الحضارات&والشموخ مهما حاول بعضهم أن يختصرَتاريخه بإتفاقات معاهدة سايكس بيكو كما&تروّجُ&بعض الأحزاب العرقيةرغبة منها في تقسيمه&إلى كانتونات.&
العراقيون ليسوا سذجاً ويقبلون بأدوار هامشية، فهم أعزاء وأقوياء واذكياء لا تنطلي عليهم الأكاذيب&ولهذا فإن إنتفاضة الشباب هذه كان المفروض أن تحدث قبل السطو الأميركي وتزيح الدكتاتورية،&لكن هذه المهمة كانت صعبة على العراقيين&حيث لم تتحقق&قوانين الثورة&بسبب قسوة النظام&على الشعب العراقي الأعزل وعزلته&عن العالم الخارجي، إلا أن الغرب والأميركان بالذات عملوا كل ما بوسعهم،&مستغلين سقوط الاتحاد السوفييتي،&على أن يسقطوا النظام بأنفسهم وبالحرب لكي يسيطروا على منابع النفط ويستغلوا&الإختلافات بين&طوائف&العراقيين&وأعراقهم.
وكانت النتيجة ستة عشر عام من الفوضى والتخريب والفساد والإحتقان الديني،&ومع ذلك&فإن&الأحزاب باستثناء التيار الصدري (حتى كتابة هذه السطور) لم تستطع أن تنظم مسيرة أو مظاهرة مثل مظاهرات الشباب الحالية&وإحتجاجاتهم.
كثيرا ما نسمع&بعضَ&المحللين مَنْ&يقول إن&الأميركان وسفارتها في العراق واسرئيل يقفون وراء هذه الإحتجاجات،&وإن&هؤلاء الشباب لا تزيد أعمارهم عن العشرين أو الثلاثين وإنهم مغررٌ بهم، أو من&"أبناء الرفيقات والرفاق" غامزين لامزين كذا وكذا والخ،&وفيهم المندسون، والخ، وهذا أمرٌ طبيعي&فلا يمكن تكميم الأفواه ولا منع الناس من الإحتجاج&والتحقق من إنتماءات آبائهم وأمهاتهم، كل شيء ممكن أن يحصل علماً أن المحتجين يرفضون المخربين&والمندسين&ويصرون على سلمية إحتجاجاتهم&حتى الآن،&وقد يحصل ما لايحمد عقباه إذا لم تستجب السلطة لمطالبهم&لا سيما وان اغلب العشائر العراقية المسلحة تقف إلى جانبهم.&أما بالنسبة لأميركا فإنها تمارس نشاطها الإعلامي بصراحة ضد السلطات العراقية مستغلة الفساد والإدارة السيئة وتعتبرها فاشلة. &
ولكني اقول&هنا&عن المحتجين&إنهم أبناؤنا جميعاً&أياً كانوا،&فلذات أكبادنا،&إنهم يسمعون آلام آبائهم وأمهاتهم كل يوم، يعرفون معاناتهم جيدا ويتعايشون معها يوميا ويعانون منها نفسيا وبالذات في فترات مراهقتهم القاسية،&وعلينا&أن نقبلهم كما هم وليس كما نريد، إنهم&وأهاليهم&يمثلون كل معتقدات العراقيين السياسية والدينية والعرقية بدون استثناء،&إنهم جيل&ما&قبل&الإحتلال&وبعده&والحرب الأهلية والنضال ضد داعش، جيل&الوطن المفقود، جيل الوطن المسروق،&جيل يهتف "بالروح، بالدم نفديك يا عراق!" رغم أنه لم يحصل منه غير الحروب والحرمان،&جيل الضياع والحرمان والأحلام المفقودة،&جيل إنتشار المخدرات،&جيل إنتهاك الأعراض، جيل الإتجار بأعضاء البشر،&جيل قصائد الشعر الشعبي الحماسية والروايات والقصص&العراقية&الجميلة&التي فضحت المخفي والمستور،&جيل الدستور الذي كفَلَ حرية التعبير والإحتجاج السلمي نظريا،&جيل الفيسبوك والموبايلات والمخدرات والتشرد والجوع في شوارع&أغنى بلد&نفطي&في العالم&وخرائبه،&جيل ليس لديه غير قوته،&جيل اجتاز خط الخوف والمحرمات والإنتماءات الطائفية&والحزبية،&جيل يرى يوميا على شاشات التلفزيون وجوه نواب البرلمان والوزراء والسياسيين الزاهية المحفوفة&المزوقة&اللامعة من مراهم التجميل ومواد&"الميكياج" المتباهين&بأسنانهم البيضاء وبدلاتهم ومناديلهم وأربطتهم وهم يتمنطقون و"يتقنعرون"&بينما الفقراء يبحثون عن قوتهم في القمامات، جيل يرى يوميا حمايات المسؤولين ويشعر بالبون الشاسع بينه وبين&هؤلاء المبتذلين أشباه الأميين المنتفعين&"النفعيين"&المتعطشين للمال والجاه والسلطة،&جيل لا يؤمن بالطائفية منهجاً وسلوكاً، جيل&رفض أن يكون من الأغلبية الصامتة، جيل&ثائر لن يسكت قبل ان تتحقق مطالبه&وبالدرجة الأولى إستقالة رئيس الوزراء&وحل البرلمان&وسيقدم قادتَه في اللحظة&المناسبة،&جيل&ضَعُفَ&عنده الإيمان بوعود&السياسيين&ورجال الدين&وانعدمت ثقته بهم&وبأحزابهم&ولهذا قالَويقولُ&كلمتَه&بعصبية وبطريقته الخاصة&بدون تزويق أو رتوش: خلاص بعد ما انريدكم، ما نريد أحزاب، تعبنا منكم كلكم،&جيل يريد أن يتعلم ويعمل ويحب ويعيش بكرامة، هل هذا&كثير عليهم؟ هل هذا&حرام؟
وغالبا ما يعبر&أي شخص من هؤلاء المحتجين&عن نفسه بانفعال&وعصبية&وثورية وتلقائية&وحماس وتطرف ولكن برومانسية الحلم بمستقبل زاهر في بلاده المستباحة،&وبكاء وقد يشق زيقَه&من الألم!
لقد كتب&الروائي&الروسي&الكبير&دوستويفسكي&عن الثوريين قبل أكثر من قرن ونصف القرن&في روايته "مذكرات من البيت الميت" عام 1860&" ...الثوريون&أناس متأججو الحماسة، ضمآنون إلى العدل، شديدو السذاجة، مقتنعون إقتناعاً صادقاً شريفاً بالقدرة المطلقة على تحقيق رغباتهم... ينعمون بذكاء متفوق، ولكنهم أعظم حماسة وأشد تأججاً... يعرفون كيف يوجهون الجماهير وكيف يقودونها، وكيف يحققون ما يريدون، فيجب أن نعلم أن هؤلاء ينتمون بهذا وحده إلى نموذج آخر من الزعماء الشعبيين ...هم زعماء العصيان والمحرضون على التمرد، هم أناس يخسرون قضيتهم... يملؤون السجون... إن سر تأثيرهم في الناس هو أنهم يسيرون أول السائرين لا يهابون&ولا يخافون شيئاً...".
لكن مع ذلك علينا أن نتذكر قولَ&نابليون بونابرت:
في الثورة هناك نوعان من الناس، من يقومون بالثورة ومن يستفيدون منها!
التعليقات