لقد سجل الإسلام السياسي جماعة وفكراً موقفاً متخاذلاً في الكثير من المناسبات السياسية والمفاصل التاريخية التي عصفت بالمنطقة ، الأمر الذي انعكس على زيادة خساراته وانحسار حضوره في الوجدان العربي والتأثير العام .
ورغم أن هذا لم يدفعه إلى مراجعة ذاتية ولا محاسبة داخلية ، تفكك البنى الفاسدة والرديئة التي ينطوي عليها ، بل في كل مرة يقترف مكابرة جديدة ويراهن على ضمور ذاكرة المجتمعات العربية ويرتكب حماقة جديدة تزيد من رصيد النقمة عليه وتطوي مسافة جديدة في مشوار الانفصال الحتمي والجذري عنه .

لقد كان الإسلام السياسي طوال مشواره العريض والمثخن بالثغرات ، ينقلب في كل مرة على مبادئه الشكلية ، وينسف ما يجاهر ويفاخر بابنيه من قيم الزهد في السلطة وتغليب المصلحة العامة وإرادة الخير للأمة ، ويعاجل الآخرين في اقتناص الفرص والاستحواذ على الحصص ، ولو كلفه ذلك التحالف مع الشيطان والاستقواء بالأعداء واستظهار التماهي مع الشكلانية العولمية ، لضمان الحفاظ على خط الضرورة من تأثيره ورجحان كفته وفاعليته .
ويحتفظ التاريخ البعيد والقريب ، وحتى الراهن منه ، بالكثير من المواقف التي كشف فيها الإسلام السياسي عن ساق نهمه الأعمى للسلطة وبسيط سيطرته ومدّ نفوذه وتوسيع مكاسبه والانفراد بسلة الثمار الواعدة لكل فرصة محتملة وفوز متوقع وجنة مشتهاة .

تراث قديم من الصدامات الدامية
يشير التاريخ القديم للجماعات الإسلامية منذ تأسيسها إلى حجم مثير من الصدامات الدامية التي وجهت من خلالها السهام إلى الشعوب العربية والحكومات القائمة ، من محاولة اغتيال الزعيم المصري جمال عبدالناصر التي اتهم بها التنظيم السري للإخوان المسلمين ، واغتيال صنوه أنور السادات بعد أن تبلورت روح ناقمة في السجون برعاية الأيديولوجيا الإسلاموية ، تناسلت من رحمها أشكال وصنوف مختلفة من الأفكار المتطرفة والجماعات المتشددة ، كانت نواة صلبة لعهد ظلامي نصبت راياته السوداء وتفجرت طاقاته العمياء ، وبدأت سلسلة من الصدامات التي طورتها ( الجماعة الإسلامية والتكفير والهجرة ) في وجه الملامح المدنية والسياحية للحكومة المصرية ، قبل أن تفرّ إلى أفغانستان بحثاً عن موطئ آمن لعناصرها وبنيتها التحتية ، وتنتهي بمنتج تطرفي أكثر حدة وإسرافاً في الإيغال بدماء العامة ، تجاوزت الجغرافيا المصرية بعد أن ضاقت بها الوسيعة ، واندلعت آثارها في سوريا حماه ، والجزائر في عهدة جبهة الإنقاذ ، وارتدت نيرانها على عدد من الدول والعواصم العربية التي جهرتها نسخة معدلة من الوجود الإسلاموي النازع إلى التطرف والعنف ، ودخلت المنطقة في نفق مظلم لم تتخلص منه حتى الساعة .

شكل سياسي بمضمون تطرفي

بعد أن جوبهت الفكرة الإسلاموي برفض حاد وجاد ، تبنته الأنظمة السياسية العربية ولفظته الذهنية الشعبية ، خففت الحالة الإسلامية من اندفاعها ، واتخذت شكل تعبير سياسي وحزبي ، يمكنها من الاندماج في الشأن العام وتأهيلها للحصول على فرص التأثير والتغيير من داخل البنى السياسية والاجتماعية ، بعد أن أضحت الحلول والسبل الجذرية مستعصية وغير قابلة للتطبيق .

كانت الثورة الإيرانية عام 1979، التي انتهت إلى سيطرة الملالي على سدة الحكم ، فكرة مغرية للإسلاميين في الشق السني ، أقلّت طائرة محملة بوفد من رموز الإخوان المسلمين وقيادييهم لمباركة هذا التحول الذي شهدته طهران ، جاء الوفد الإخواني في ثالث طائرة تهبط في مطار طهران بعد طائرة الخميني وطائرة اخرى ، وكانت الزيارة محمولة بالأمل لتحقيق النتيجة نفسها في البلدان العربية .

في الحرب العراقية الإيرانية بين عامي 1980 و1988، أبدى الإخوان استمراراً في وهمهم بأن الملالي امتداد لفكرتهم ، وفرصة لتوطين أحلامهم ، وأصدرت الجماعة (التنظيم الدولي) بياناً هاجم فيه "حزب البعث الملحد الكافر" داعياً العراقيين إلى "قتل جلاديكم. القوا اسلحتكم وانضموا الى معسكر الثورة، الثورة الاسلامية ثورتكم".

ولكن الجماعة انقلبت على نفسها ، عندما أيدت غزو العراق للكويت عام 1990، بل حولت بنادق هجومها وتشويهها للدول العربية التي تصدت لهجوم صدام على جيرانه ، وتحملت السعودية أعباء هذا الهجوم السافر والتشويه الجائر ، وجرى تحريك بعض الرموز السعودية المحلية التي تلتقي معهم في نفس المنهج وعلى شفير المفردات التي تشكل وعيهم وتموّل ثقافتهم السياسية والحركية ، وانتهت العاصفة بتعرية الإسلام السياسي من قيمه المدعاة ومبادئه المزورة ، بعد أن ناصر الجلّاد على حساب الضحية ، ووقف في صف الظالم نكاية بالمظلوم .

تراث ضخم من ادعاء التحول السياسي واستكناه القيم المتحضرة ، وتبنّي الشكلانية المدنية لجماعات وفكر الإسلاميين ، أوردتهم في الكثير من المواقف الفاضحة التي تكشف عن حجم الزيف وضعف الاستعداد للخروج من فهم قاصر وإقصائي ، يفضل المكاسب والمصالح على القيم والمبادئ .

مسرح الربيع العربي : استعجال النتائج
شكّلت ثورات ما يسمى " الربيع العربي " فرصة ذهبية ، طارت لها ألباب الحركات الإسلامية ، بعد أن خسرت الكثير من وهجها وحضورها بتأثير العنف الإسلاموي الذي سمم فضاء الشرق الأوسط ، وفخخ جغرافياته المتنائية ، ووقع الفكر الإسلامي العنفي في شرّ حبائله ، بعد أن اتصرف عنه الناس ودفع الجميع أثمان باهظة من جراء نتائجه الوخيمة على الإسلام والشعوب العربية .

جاءت الانتفاضات العربية التي جأرت بالضيق من الظروف المعيشية القاتمة ، كطوق نجاة للإسلاميين وهم يخسرون وصيدهم الشعبي إزاء انسداد الأفق لديهم إلا من تمظهرات عنفية وصدامية ضاعفت من نفور الناس وحنقهم .

تبادل الإسلاميون مع ملالي طهران التهاني والتبريكات بشأن الانتفاضات وكأنها مصممة كاستجابة لجهدهم التنويري ونضالهم السياسي ، تفاءلت طهران بربيع العرب فأعلنته إسلامياً واعتبرته امتداداً للثورة الإسلامية في إيران ، وشحذ الإسلاميون العرب كل طاقاتهم ودسائسهم ودأبهم لركوب الموجة والانقضاض على حاجات الشعوب ومتاعبهم .

موّلت الدوحة وأنقرة حتى آخر رمق من الوهم ، اندفاع الإسلاميين إلى الحصص السياسية التي أتاحتها ثورات الشعوب ، وسلكت في سبيل ذلك الطرق المختصرة للانقضاض على كراسي ومناصب ومقاعد الحكم في دول ما بعد الثورات ، من ذلك سعيهم المنفرد للتحالف مع العسكر في مصر في كواليس ثورة عفوية بريئة ، والبحث عن صيغة لتوزيع المكاسب باستثمار ضغط الشارع وبمنأى عن تأثيره على حظوظهم الضيقة .
واستعادة حضورهم على التراب السوري وعقد اجتماعات حزبية في بواكير الثورة السورية ، والاستحواذ على مؤسسات تسيير الشأن الثوري وإقصاء بقية المكونات المدنية والشعبية التي لا تنضوي تحت لوائهم أو تعترف بقيادتهم .
فضلاً عن شكل عنفي يلتقي مع ثقافتهم الأصلية ، مثل الاستئثار بعاصمة ليبيا بقوة السلاح ، واللعب في مصير الثورة اليمنية وتجاوز تضحيات الشعب الأعزل لضمان حفظ مكانتهم التقليدية في الشأن العام اليمني .

وبعد أن هدأت عواصف الثورات العربية ، وبدأت النتائج تميل بغير كفة الإسلاميين ، منذ اندلاع ثورة شعبية عارمة ترفض السنة الأولى لحكم إخوان مصر ، واختلال ميزان القوى لغير صالح الإسلاميين في ليبيا وتونس واليمن ، استعاد العنف عافيته مرد فعل طبيعي تتبناه الحركات الإسلامية تحت الضغط وعند مختصره انفلاشها في الأرض ، وأخذت تتعاطى مع طهران في ذروة ما تقترفه بحق الشعب السوري من مجازر وانتهاكات ، وتناصب العواصم العربية التي رفضت مشروعهم ، العداء المحض والهجوم السافر ، على نحو ما تفعله الآن مع السعودية والإمارات .