بين فترة واخرى تتفاقم الازمة القائمة بين شركات الغذاء التي تهتمّبتعبئة اللحوم وتسويقها وبين الإعلام الذي يتربّص لكل حالة تشدّ الانتباه بشان قيام الشركات الغذائية الكبرى بمعالجة لحوم الخيول وخلطها مع لحوم الابقار وتسويقه على انه لحم بقري صافٍ .

وقبل بضعة ايام قرأت خبرا أثار انتباهي عن تعمّد احدى شركات الاطعمة بترويج لحوم معبأة بعناية على انه لحم بقري 100% ثم اتضح بعد الفحص المختبري انه غير ذلك مما جعل وسائل الاعلام والصحافة تشمّر عن سواعدها لمتابعة هذه القضية التي تشغل الرأي العام مثلما اشغلت الدوائر الاقتصادية لتصبّ جام غضبها على تلك الشركات المخادعة ... مع ان لحم الخيول ليس مشينا من الناحية الصحية امام مخاطر مرض جنون البقر مثلاً وأهواله المخيفة وكثيرا ماكنت ارى في كافة مدن اوروبا التي زرتها محالا صغيرة للجزارة تقوم ببيعه علانية وتدلل عليه ببوستر يوضع امام كتل اللحم المتراصة امام المارّة .

كما تحدثنا كتب السلف الصالح في تاريخنا بان طعام لحم الخيول كان مألوفا منذ العصر الجاهلي، ومازلت اتذكر قصة جدّنا الاكرم حاتم الطائي ومبادرته حينما ذبح فرسه العزيزة اكراما للضيوف حيث لم يكن لديه غير فرسه ليقدمها طعاما مستساغا لضيوفه كما لم يشر الاسلام الى تحريمه مثلما حرّمت لحوم الخنازير والميتة وغيرها من المحرمات واكتفى بعض الفقهاء وليس كلّهم بان اكله مكروهٌ ليس الاّ.

ومن الطريف ان اذكر دون ايّ حرجٍ انني ذقته مرة في احدى زياراتي الى باريس دون ان ادري اذ عدت متعبا بعد تجوال في اروقة متحف اللوفر ساعات طوال، وفي طريق العودة الى غرفتي وقد أصابني الإنهاك والجوع رأيت أمامي ورْكاً من لحم أثار شهيتي كان معلّقا امام محل صغير قريب جداً من سكن صديقي ومضيّفي الذي آواني بضعة ايام في غرفته على صغرها وقلّة أفرشتها .

كان منظر اللحم شهيّا متورّدا لامعا وانا الجائع المتعب وطلبت من الجزّار نصف كغم دون ان ألمح البوستر الملصق قبالته وعدت ادراجي الى الغرفة وقمت بتقطيعه على شكل "ستيك " قبل ان يجيء صديقي الذي ضيّفني في غرفته اياما وقمت بإعداده وقلْيهِ وتتبيلهِ بصورة تبعث على الشهية حتى وصل صديقي وافترشنا المائدة من ورق الجرائد القديمة وأكلنا بكل نهم وعافية ومذاق ولهفة وقد اثنى عليّ صديقي هذا الترتيب والمبادرة والكرم وقال لي متسائلا : من اين جئت بهذا اللحم الشهيّ؟؟ فرددت عليه باني اشتريته من البائع القريب المواجه لمسكننا موضّحا له المكان الذي يعرفه جيدا وإذا به يجفل أمامي بكل اندهاش ويصيح بي: يا صديقي هذا الرجل يبيع لحم الحصان! وقد كنت حقا مصدوما بحقيقة ماجرى ولكنه استدرك قائلاً: لاعليك فقد كان صنيعك حسنا؛ وإننا الآن أكلنا " ستيك " أبو النعلچة.

والغفلة الثانية انني كنت في زيارة سياحية الى تونس اثناء العطلة الصيفية حيث كنت اعمل تدريسيا في ليبيا، وبعد جولة ليلية في شوارع تونس وحاناتها وانا في طريق عودتي الى الفندق الذي اقيم فيه شاهدت تجمّعا كثيفا من الناس يتحلّقون حول عربة لبائع متجوّل وهم ينهمون بشهية واضحة على الطعام الذي امامهم وصادف ان مررتُ امام العربة وأثارت شهيتي رائحة الطعام المنبعثة من بخار القدْر، كانت الرائحة مثيرة تماما مثل رائحة " الباچة " العراقية أو لحمة الرأس المصرية بزفرتها اللذيذة التي لا تقاوم وطلبت منه صحنا ساخنا ولم يبخل البائع بتقديم قطع من اللحم الخالي من الدهون والعظام مع صحن من " السوب " الساخن فبادرت لالتهامه بشهية ملحوظة وبعد ان انتهيت، سألته عن نوع اللحم اللذيذ الذي قدّمه لي فأجاب مفتخراً: انه لحمة رأس الحصان.

وكم كان ذهولي واضحا امام مرأى الزبائن الذين أحسّوا حالة الارتباك التي لازمتني لكنها سرعان مازالت دهشتي فالوجبتان التي أكلتهما في غفلتي عن غير عمْد ليستا سيئتين اطلاقا بل كانتا وجبتين مازلت اذكر مذاقهما الجيد، ولا أدري لِمَ تسبب تلك اللحوم مثل هذه الضجة القائمة الان وكأنّ مشاكل العالم والدماء النازفة والحروب القذرة قد وضعت أوزارها ولم يبقَ الاّ طعام لحم الخيول شغلنا الشاغل .

[email protected]