قد يكون العراق أكثر بلد في العالم العربي والشرق الاوسط شهد إنقلابات خلال القرن العشرين، وكان سباقاً فيها للأسف. فقد بدأت بإنقلاب بكر صدقي عام 1936 أي بعد15 عاماً من تأسيس الدولة العراقية، والذي كان أول إنقلاب عسكري في المنطقة العربية، ثم تبعه إنقلاب الضباط الأربعة بالتحالف مع رشيد عالي الكيلاني عام 1941، ثم إنقلاب 14 تموز الذي أسقط النظام الملكي على يد عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف عام 1958، تلاه إنقلاب عارف مع البعثيين على رفيقه قاسم في 8 شباط 1963 وإنقلابه على البعثيين في نفس العام، ثم إنقلاب البعثيين على عبد الرحمن عارف في 17 تموز 1968، تلاه إنقلاب البعثيين على رفاقهم في 30 تموز، وحتى تولي صدام للسلطة بعد البكر كان إنقلاباً على الأخير لا تنازلاً منه كما أشيع. ولم تتوقف الإنقلابات حتى في زمن صدام الذي شهد العديد من الإنقلابات لكنها لم تنجح لأن قبضة صدام الحديدية وأجهزته الأمنية القمعية كانت تئِدها وهي في مهدها أو في لحظاتها الأخيرة.
بعد 2003 ظن العراقيون بأن زمن الإنقلابات قد ولّى، لأن النظام الديمقراطي الذي إعتُمِد بعد هذا التأريخ أوجَد آلية الانتخابات التي تستطيع أي شخصية أو قوة سياسية أن تصل بها الى السلطة دون أن تتآمر بالأقبية ليلاً وتمتطي الدبابات لتنقلب بها على السلطة نهاراً. لكن للأسف لم يهنأ العراقيون بهذا الأمر، لأن طبيعة تركيبتهم المجتمعية وجهلهم بمباديء الديمقراطية وآلياتها جعلت منهم هدفاً سهلاً لقوى الإسلام السياسي الشمولية، الشيعية منها تحديداً، التي إستلمت الراية من القوى الشيوعية والقومية الشمولية التي كانت تقوم بالإنقلابات سابقاً، وقررت أن تستغل الديمقراطية وتسخر ألياتها لخدمة مشروعها لتحويل العراق الى دولة إسلامية طائفية تابعة لإيران، وسَخّرت لهذا الهدف كل ما يمكن تخيله من أساليب لدفع الناس ترغيباً وترهيباً لإنتخاب أحزابها، فإستخدمت فتاوى الدين لترعب الناس وتجبرهم على ذلك، كما إستخدمت المال لتُرغِّبهم به، وقد نجحت بذلك خلال إنتخابات 2005 و2006، لكن فتاواها وأموالها السُحت لم تسعفها عام 2010، حينما صَوّت العراقيون بكل فئاتهم لقائمة الدكتور أياد علاوي، التي ضَمّت شخصيات وقوى سياسية من جميع أطياف الشعب العراقي وفقاً لإنتمائهم الوطني لا الفِئَوي، لكن هذا لم يعجب ايران بل وأرعَبها، لأنه كاد أن يَسحب البساط من تحت أقدام أتباعها بالعراق، ويُفقِدهم سلطتهم التي بدأوا يضعون أسُسَها بعد أن خططوا للوصول اليها منذ عقود، لقناعتِهم بأنها لهم، وهي قناعة عَبّرت عنها بوضوح مقولة المالكي خلال فترة حكمه الأولى التي سَبقت هذه الإنتخابات "هوّة يكدر واحد ياخذها حتى ننطيها"، لذا لم يسمحوا للدكتور أيام علاوي بتولي السلطة وعرقلوا خطوات تشكيله للحكومة، رغم أن قائمته هي التي فازت وكانت صاحبة المقاعد الأكثر في البرلمان وهي 91 وبفارق مقعدين عن القائمة التي تليها، وهي قائمة المالكي الذي كان حينها رئيساً للوزراء وسَخّر كل إمكاناته ليفوز بالإنتخابات، إلا أنه لم يحصل سوى على 89 مقعد، لكنه بالنهاية سَرق السلطة من مُستَحِّقها بلَي عنق القانون، وتحريف كلمات الدستور، وشراء أصوات المحكمة الإتحادية!
إن ما قام به المالكي بعد الإنتخابات البرلمانية عام 2010 كان إنقلاباً بكل المقاييس، لكنه موديل القرن الواحد والعشرين، ولا يشبه إنقلابات القرن العشرين التي سمعنا عنها. فهو لم يستعمل العسكر ولا شعارات الشرعية الثورية لأنها ليست بضاعة العصر الحالي، الذي بضاعته الانتخابات والشرعية الدستورية، لذا قام بإنقلابه عن طريق التلاعب بنتائج الانتخابات وتزوير الدستور. في البداية شَكّك بنتائج الإنتخابات حينما وجَد أنها ليست في صالحه، وحاول إستعمال سلطته كرئيس وزراء لتغييرها لكنه فشل، فقرر الذهاب الى المحكمة الإتحادية التي يرأسها عَرّاب وعاظ السلاطين مدحت المحمود ليُفسر له ما لا يحتاج الى تفسير، وليُرَهِّم له مفهوم الكتلة الأكبر على هواه وبما يُحَوّل النتيجة لصالحه ويَسمح له بالبقاء في السلطة، فأفتى له زوراً أن المقصود بالكتلة الأكبر في الدستور هي الكتلة التي تتشكل بعد الانتخابات وتحت قبة البرلمان، وهو لعَمري تفسير لا يمكن أن يقنع طفلاً لديه ذرة من العقل، ولكنه للاسف أقنع الملايين من العراقيين! فمفهوم الكتلة الاكبر الفائزة بالإنتخابات واضح ومحسوم بكل العالم، ولا يحتاج الى توضيح من محكمة، لأنها الكتلة التي تفوز في الانتخابات مباشرة، وليس التي تتشكل بعدها، وإلا فستنتفي قيمة صناديق الإقتراع وتفقد الإنتخابات معناها، ويمكن إستبدالها مثلاً بإستفناء بين الناس لأكثر الاحزاب السياسية مقبولية لديهم ثم يتشكل منها برلمان، وأي منها تتوافق وتتشكل مع بعضها وإن كان من 20 حزب صغير فهي الفائزة، حتى إن كانت هنالك حزب واحد قد حظي بأغلبية أصوات الناس، وطبعاً هذا هراء لا علاقة له بما يحدث في أي دولة تحترم نفسها مهما كانت تجربتها بدائية في الديمقراطية والإنتخابات، لكنه حدث في العراق عام2010 لأن من كان في السلطة حينها مجرم فاسد سَبق وأن صَرّح بوقاحة أنه لن يعطي السلطة، ولأن من يرأس محكمته الإتحادية التي يفترض أن تحكم بين الناس بالعدل واعظ سلاطين دَجّال حَكَم بالباطل وسَنّ سُنّة سيئة وسابقة تزوير لم يعرف لها التأريخ مثيلاً، ورَمَت بتبعاتها على مستقبل دولة وتسببت في ضياعها وقتل وتشريد الملايين من أبنائها حتى هذه اللحظة.
إن تأثير هذا الإنقلاب لا يقل ضرراً عن سابقيه من الانقلابات التي مَرّت على تأريخ العراق، فنتيجة هذه الإنتخابات كانت ربما واحدة من أكثر الإنتخابات صِدقاً ووطنية، ليس فقط بعد 2003 بل وفي تأريخ العراق الحديث. فالفترة التي إمتدت بين 1958 و2003 كانت فترة أنظمة دكتاتورية لم تشهد إنتخابات أصلاً، وما سبقها من إنتخابات بالعهد الملكي لم يكن زخم المشاركة فيها والإحتقان والتحشيد الطائفي والإثني كإنتخابات 2010. فرغم كَم الشعارات الطائفية والأموال السُحت التي تم ضَخّها فيها لدفع الناس الى الإنتخاب على أساس الطائفة والدين والقومية، إلا أن غالبية الناس التي شاركت في الإنتخابات أعطت أصواتها لمَن وجدته الأفضل لها ولبلادها بتوجهاته الوطنية وبرنامجه الإنتخابي المهني، لا لإنتمائه الطائفي والإثني والديني، وهذه الصفات توفرت حينها ولا تزال في الدكتور اياد علاوي وقائمته الوطنية العراقية التي إستطاع أن يجمع فيها بحكمته وذكائه أغلب الفعاليات السياسية العراقية التي تُعَبّر عن أغلب مكونات الشعب العراقي.
أما تداعيات هذا الإنقلاب، فلا يزال العراق يعاني منها الى اليوم، بل إن كل ما حَل بالعراق من دمار خلال عَقد من عُمر الزمن ومِن أعمار أبناءه بين 2010 و2020 هو نتيجة لهذا الإنقلاب المشؤوم، فلو كان الدكتور أياد علاوي قد تولى المسؤولية حينها كرئيس للوزراء، لما حدثت الكثير من الأمور التي فعلها المالكي عن سابق إصرار وترصد بتخطيط من أسياده في ايران، وقادت الى أمور أسوء منها. بدئاً من تهريبه للمئات من عُتاة سجناء القاعدة من سجن أبو غريب، الذين شكلوا فيما بعد نواة تنظيم داعش، ثم إعطاءه أمراً لثلاث فرق عسكرية مجهزة بأحدث الأسلحة لتنسحب أمام ألف إرهابي داعشي وتسليمهم الموصل إنتقاماً منها ومن كل الغربية، وبالتالي إيجاد حجة ومُبررلتحويل مجموعة عصابات ومليشيات مرتزقة الى كيان الحشد الهجين الشبيه بالحرس الثوري الايراني ليَحل محل الجيش ويستبيح البلاد ويحولها الى مستعمرة ايرانية، وما كان ليسمح بحَجم الفساد الذي أغرق حكومة المالكي ووصل الى حد إختلاس مئات المليارت من خزينة الدولة العراقية لصالح ايران وصفقات حزبية مشبوهة، وغيرها كثير من الويلات جرتها سنوات حكم المالكي الثمان العجاف على العراق، والتي كان يمكن تداركها لو تم الإكتفاء بسنواته الأربع الفاشلة الأولى، ولم تذعُن إدارة أوباما السلبية الى ايران لتهديه السلطة لأربع سنوات أخرى عِبر سرقتها من الدكتور أياد علاوي. فالدكتور أياد علاوي صاحب مشروع وطني ليبرالي مُعارض لنفوذ ايران ومشروعها التوسعي الطائفي في العراق، بل هو من أبرز المتصدين له منذ عودته، وهذا ما دفع ايران الى التدخل بكل وقاحة لإفشال توليه للسلطة رغم فوزه بها قانونياً! كما أنه رئيس الوزراء الوحيد بعد 2003 الذي فتح تحقيقاً مع كل المسؤولين الذين طالتهم شبهة فسادة في حكومته رغم أن عمرها لم يتجاوز عدة أشهر، في حين لم يفعلها من جاؤوا بعده مع مسؤولي حكوماتهم التي دامت أربع وثمان سنوات. وبالتالي فإن توليه للمنصب كان يمكن أن يدفع الى حصول الكثير من الأمور الجيدة التي كان يمكن لها أن تقود لأوضاع أفضل بكثير من الأضاع التي قادت اليها حماقات المالكي وفساده وجرائمه التي يعيش العراقيون تداعياتها المريعة اليوم، وهو ما أدى الى أن يطفح كيل الشباب منهم ليخرجوا في تظاهرات تشرين مطالبين بحقوقهم وبإصلاح بلدهم في مواجهة أفسد طبقة سياسية عرفها ليس فقط تأريخ العراق بل والعالم بعمالتها للخارج على حساب بلدها وشعبها وبإجرامها بحقهم.
لكن للأسف فات المتظاهرين، بجملة ما فاتهم، أن يطالبوا بإعادة الحق الى أصحابه والى نصابه، عبر ترشيح الدكتور أياد علاوي، ولو إعتبارياً، لكل الإعتبارات التي ذكرناها سابقاً، وعلى رأسها ليبراليته ولا طائفيته وعلاقاته العربية والإقليمية والدولية وإجماع أغلب العراقيين عليه بمختلف إنتمائاتهم، بالإضافة الى ضربه للمليشيات والتنظيمات الإرهابية بيَد من حديد حينما كان في السلطة لفترة مؤقتة، ورفض ايران لتوليه إياها حينما فاز بها عبر الانتخابات. بدلاً من ذلك طالبوا بإبن عمه ذو الخلفية الاسلامية محمد توفيق علاوي، الذي لم ينجح كوزير، والذي لا يمتلك ربع مواصفاته، الى جانب أسماء أخرى لا تصلح للمنصب بتاتاً لافتقارها الى متطلباته ومتطلبات المرحلة، والذي على عكس إبن عمه توافقت ايران وملشياتها وتنظيماتها الارهابية على تكليفه وتفاوضت معه ليكون مُرَشّحها ووافق، فتم تقديم اسمه لرئيس الجمهورية ليقوم بتكليفه باعتباره مُرَشّح الساحات والقوى السياسية معاً، وحدث ما حدث!
- آخر تحديث :
التعليقات