بعد مضي ٧٥ عاماً على " اتفاق كوينسي " الشهير الذي جمع الرئيس فرانكلين روزفلت مع مؤسس السعودية الثالثة عبد العزيز بن سعود على متن سفينة أمريكية ، في قناة السويس.

لا تزال العلاقة العريقة تحتفظ بحيويتها ، رغم العواصف القاسية التي واجهتها ولازمت المنطقة خلال العقود الفائتة ، كما أن دور السعودية الإقليمي بوصفها دولة محورية لا يزال قوياً ، تعززه كل التحديات التي تبرز كل حين وتتصدى لها الرياض محفوفة بشراكتها الواثقة والصادقة مع القوى الكبرى التي ترعى مصالحها بالأساس ، ومن جهة تحاول دول الاستقرار والاعتدال ألا يحدث هذا على حساب المصالح الأساسية لشعوب ودول المنطقة.

وتزامناً مع مناسبة الذكرى الـ 75 للإجتماع الأول بين الرئيس الأمريكي والملك السعودي في يوم 14 فبراير، احتفت السفارة الأمريكية بالرياض، واستعرضت خلال الحفل بعض الصور التاريخية ومقاطع الفيديو للقاء الزعيمين على متن البارجة الأمريكية كوينسي⁩ في عام 1945.
كما احتفل حفيد روزفلت بحضور الأمير سلطان بن أحمد بن عبدالعزيز سفير السعودية لدى البحرين، وأعادا تجسيد صورة اللقاء الشهير ولكن على متن السفينة الحربية فراجوت.

ثمة إرادة مشتركة بين البلدين المهمين على مستوى العالم والإقليم لإزاحة سحب الصيف القاتمة التي خيّمت لبعض الوقت في سماء المنطقة، وأفسدت طبيعة العلاقة التي تضمن أفضل صيغة لاستقرار الإقليم وصونه من جوائح الفوضى ورياح الاختراق التي ينفثها لاعبون إقليميون يدأبون لافتعال ثغرة في جدار العلاقة الوثيقة بين الرياض وواشنطن، باعتبار هذا الإسفين مبتدأ كل مشروع عدائي يستهدف مدّ نفوذه وتفتيت الجدران المنيعة من عواصم المنطقة الأصيلة.

لقد سعى الزعيم العربي المؤسس للكيان السعودي في دورته الثالثة أن ينهي ضباب المجهود الدولي وتلاعب القوى الكبرى بحالة المنطقة، فعل ذلك بوضع نقاط الشراكة المتوخاة على الحروف الواقع المتينة ، بمزاج تفاوضي صعب ، نحت ابن سعود طبيعة العلاقة التي أكسبتها ضراوة التحديات قوة ومناعة امتدت لسبعة عقود من الثبات.

فيما يشبه العودة إلى الأصول ، يتولى هال دلنو روزفلت، رئاسة مجلس الأعمال السعودي الأميركي، الذي يهتم بالترويج للتعاون والاستثمار ما بين السعودية والولايات المتحدة، على خطى جده الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت، الذي كتب السطر الأول من مخطوطة تعزيز العلاقات بين البلدين وترويج التجارة والاستثمار وفتح المجال أمام عمل الشركات الأميركية في المملكة.

لم تكن الرياض لتستسلم لشراكة أحادية مع القوة الأكبر في العالم، دون أن تمارس حقها الطبيعي كدولة مستقلة ذات سيادة وتأثير إقليمي في بسط شراكتها ومدّ جسورها مع قوى أخرى أخذت تنهض من رميم انحساراتها القديمة، سيما وأن الولايات المتحدة أصبحت مثقلة بأعباء النفوذ المتوسع ، وأخذت تنكفئ بعض الشيء داخل حساباتها الداخلية، ولم تعد لحظة اتفاق كوينسي قائمة في يومنا هذا، من أحادية دولية وانفراد أمريكي بتشكيل وجهة العالم، حتّمت على الرياض أن تستثمر في إقبالها وتراهن على أوراقها الاقتصادية والثقافية.

كانت العلاقة مستهدفة من جهات مختلفة ، جعلت الشراكة تتعرض لكثير من الهنّات خلال تاريخها ، كان أكثرها حدة وصدامية أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي جعلت البلَدان في مواجهة قاسية من التلاوم ومراجعة الذات، وتبعات ذلك من حملة ممنهجة تستقصد إلصاق تهمة الإرهاب بالسعودية ، وما نتج من ردة فعل أمريكية أوردت المنطقة في مزالق خطيرة من بينها الغزو الأمريكي للعراق والذي عرض العواصم العربية لضغط شعبي ورسمي هائلين ، كان الخروج منه بأقل الخسائر هو أفضل ما يمكن الحصول عليه من صفقة مع التاريخ.

كما أن الجهد التشويهي لخصوم السعودية في المنطقة ساعد في إثارة الكثير من الغبار المفتعل في أفق العلاقة ، جهد مستمر ويتزايد لخدمة أجندة الإخوان وإيران والمنضم إليهم حديثاً أردوغان ، يزيد من تأثيره الغياب الصارخ لأي مؤسسات لوبية تدعم وجهة النظر السعودية في الأوساط النخبوية والإعلامية الأمريكية.

جاء دونالد ترمب بمنظور جديد للعلاقة ، أكثر عملية رغم الطرح السياسي غير المهذب، لكنه قطعي وبعيد عن الالتفاف الذي كان يسود أيام سلفه باراك أوباما الذي عرّض المنطقة للكثير من المخاطر نتيجة جهله بالتفاصيل واعتماده على قوى محلية تلاعبت بوجهة نظره وهندست ردة فعله إزاء الأحداث خلال الفترة القليلة الماضية.

مثلما احتفظت السعودية بقيمتها كبلد قائد في المنطقة بفضل شراكاتها ذات المصداقية العالية مع القوى الدولية ، فإنها وبالتزامن مع طرح رؤية الحل الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية المعروفة إعلامياً " صفقة القرن " أكدت السعودية على ثوابتها في السياسة الخارجية، وعلى رأسها أن فلسطين لأهلها منذ عهد المؤسس وحتى الزمن الراهن.

تعمّق ذكرى الاتفاق التاريخي " كوينسي " من قيمة هذه الشراكة المهمة ودورها في دعم استقرار المنطقة وضمان ازدهارها، مع ضرورة التأسيس لمرحلة جديدة تزيد من مكاسب دول المنطقة وعواصم الاعتدال وتراعي مصالحها وأولوياتها عبر هندسة الشراكة الثابتة استراتيجياً وتطويرها تكتيكياً.