على مدى السنوات التسع الماضية، أي منذ انهيار نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، استفحل في تونس مرض غريب وعجيب اسمه الشعبوية. وقد اتخذت هذه الشعبوية الشنيعة ملامح ومواصفات داء فتاك لا يبقي ولا يذر، ناشرة في البلاد الفوضى والفتن وثقافة العنف اللفظي والمادي، ومُصيبة بالعدوى كل الأحزاب والمنظمات وجلّ الشخصيات السياسية التي جاءت بها فيضانات ما سمي ب"ثورة الحرية والكرامة"، أو "ثورة الياسمين" تبركا ب"ثورة القرنفل" في البرتغال في منتصف السبعينات من القرن الماضي، فلم يسلم منه لا المنتسبون للأحزاب الدينية، ولا للأحزاب اليسارية، ولا تلك التي تزعم أنها وسطية، او ليبيرالية، أو غير ذلك إذ أن الملل والنحل تكاثرت في بلاد حنبعل وابن خلدون فما عاد أحد قادر على التمييز بين الأبيض والأسود.
وكنا نظن أن مخاطر هذا الداء سوف تتضاءل بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية التي انتظمت أواخر السنة الماضية، إلاّ أنها ازدادت استفحالا بعد أن اختار الناخبون في أعلى مراكز السلطة، أي الرئاسة ومجلس الشعب من يجسدون هذا الداء في أبشع مظاهره، لتجد النخب نفسها مقصية، ومحكوم عليها بأن يقتصر دورها على مراقبة ما يحدث يوميا من فظائع، ومن مهازل لم يسبق لها مثيل لا في عهد بورقيبة، ولا في عهد بن علي.

وأبرز ما تتميز به الشعبوية على الطريقة التونسية هو أن المصابين بدائها يتفننون في استنفار الغرائز البدائية ، والنعرات العشائرية والقبلية، وفي رفع الشعارات الجوفاء، وبيع الأكاذيب والأوهام بلا حساب كأن يوهموا أهالي الجنوب بأن في جوف الصحراء ثروة بترولية هائلة تستغلها الشركات الفرنسية، ولا يستفيد منه سوى حفنة من رجالات الحكم في عهد بورقيبة وبن علي. أو كأن يزعموا ان الاستقلال ّ"كذبة كبيرة" إذ أن فرنسا لا تزال تهيمن على البلاد سياسية واقتصاديا، مستغلة ثرواتها من دون حسيب ولا رقيب. بل أن أحدهم زعم أن بورقيبة باع فرنسا الحديد التونسي لتبني ّبرج ايفل". ورغم فداحة كذبته لم يقع تنبيهه أن "برج ايفل" أقيم قبل نصف قرن من ميلاد الزعيم التونسي.

ويجد الشعبويون التونسيون في القضية الفلسطينية ما يحرضهم على المزيد من بيع الأكاذيب والأوهام. ففي يوم تنصيبه رئيسا للجمهورية، حرص قيس سعيد على أن يضع في البرلمان العلم التونسي إلى جانب العلم التونسي زاعما أن تونس في حالة حرب مع إسرائيل. لذا سيقاضي بتهمة الخيانة العظمى كل ما "يتعامل من قريب أو من بعيد مع الكيان الصهيوني". وبعد أيام قليلة، أقال وزير الخارجية السيد خميس الجهناوي من منصبه بدعوى أنه كان من الذين هللوا ل"التطبيع مع الكيان الصهيوني"، ثم سارع باستقبال الصحفي الفلسطيني عبد الباري عطوان ليؤكد له أن القضية الفلسطينية هي "قضيته المركزية". وقام شعبوي آخر انتخب رئيسا لبلدية ضاحية الكرم، شمال العاصمة التونسية، بنصب تمثال عليه صاروخ بحجم قبضة اليد موجه إلى إسرائيل غافلا عن الأوساخ والفضلات المتراكمة في الشوارع والساحات، وعن الطرقات السيئة بسبب كثرة الحفر، وعن المجاري التي تطلق روائح كريهة على مدار الساعة.

ويعج مجلس نواب الشعب بأنصاف أميين وأميات يجهلون وضع بلادهم التاريخي والجغرافي والاجتماعي والسياسي، وبمهربين وقفوا أمام المحاكم أكثر من مرة، وبتكفيريين يجهلون أو يتجاهلون بنود الدستور الجديد فيرفعون أصواتهم من تحت قبة البرلمان للمطابة بسجن أو بتكفير من يخالفهم في الرأي، أو ينتقد تصرفاتهم المشينة المخالفة لأبسط المبادئ الأخلاقية والإنسانية. والغريب في الأمر أنه لا أحد من الذين يديرون الجلسات البرلمانية ينبه هؤلاء إلى أنهم يخالفون بأقوالهم بأفعالهم القوانين الداخلية لمجلس نواب الشعب. وغالبا ما يحتد النقاش حول مسائل تافهة لا علاقة لها بالأزمات التي تتخبط فيها البلاد، فيتشابك التواب بالأيدي، أو يتبادلون الشتائم، متخيرين الكلمات والعبارات الأشد بذاءة في القاموس الشعبوي التونسي. وعندما تتحول قاعة الجلسات إلى حلبة للمعارك، يسارع رئيس البرلمان بمغادرة كرسيه الفخم تاركا أهل البلاء في بلائهم كما يقال في التعبير التونسي الشعبي.

وما يمكن أن نستخلصه من كل هذا هو أن هذه الشعبوية المقرفة التي تتصدر المشهد السياسي نشرت لدى نسبة كبيرة من التونسيين ثقافة العنف والفوضى والتسيب والهمجية إذ أنها أوحت لهم ان الديمقراطية تعني كل هذأ وأن الحرية هي تحدي القوانين، والمس من هيبة الدولة، والحط من قيمة ومن مكانة النخب، والهتاف والتهليل للمنافقين والدجالين وأنصاف الأميين، وباعة الأوهام والأكاذيب. أفلم يكن الفرنسي مونتسكيو صاحب "روح القوانين" على حق عندما كتب يقول :"في الحكم الشعبي ذاته، يدب ألاّ تقع السلطة بتاتا بين أيدي جمهرة الشعب الدنيا".