لا تزال شخصية الرئيس التونسي قيس سعيد مُستعصية على الفهم، ومُلتبسة وغامضة حتى للعارفين بخفايا الشؤون التونسية، ولا يزال صعوده الصاروخي ليتربع على كرسي الرئاسة في قصر قرطاج يثير التعجب والاستغراب، والغضب والاستنكار أيضا. فهذا الرجل لم يكن له أيّ نشاط سياسي مثير للانتباه في مختلف حركات المعارضة طوال فترتي حكم بورقيبة وبن علي. بل أن هناك من قدم حججا ثابتة بأنه حضر العديد من الندوات التي كان ينظمها حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي تمّ حله واقصاؤه بعد سقوط نظام علي، وقبض مكافآت على تدخلاته في تلك الندوات.

وفي الجامعة ظل حتى تقاعده محافظا على نفس المرتبة كأستاذ مساعد، من دون أن يحاول الحصول على شهادة الدكتورا في القانون الدستوري التي تخول له أن يتبوأ مكانة بارزة داخل كلية الحقوق كتلك التي يحظى بها الدكتور عياض ابن عاشور، نجل شيخ التنوير الفاضل ابن عاشور على سبيل المثال لا الحصر. وعلى مدى العقود الثلاثة التي أمضاها في الحرم الجامعي، لم يبد أي رغبة في مخالطة زملائه من الأساتذة، ولا المشاركة في نشاطاتهم الفكرية والسياسية، بل كان يعيش حياة الموظف الرتيبة ، أي من قاعة التدريس إلى البيت، ومن البيت إلى قاعة التدريس، متوقفا في الصباح ،أو في المساء لشرب قهوة، وتدخين سيجارة في مقهى شعبي غالبا ما يكون قرب بيته بحي "المنيهلة"، على الطريق الفاصل بين العاصمة ومدينة بنزرت الواقعة شمال البلاد.

وظلت حياته على هذه الوتيرة إلى أن طلَعَ على الناس خلال الفترة التي قررت فيها الأحزاب الجديدة التي برزت في بداية عام 2011، اعداد دستور جديد ليتحدث بلغة غليظة ومُفَخّمَة حول مسائل تتصل بالقوانين الدستورية. وفي تدخلاته، كان يسرد المعطيات والمعلومات بسرعة، ومن دون توقف، ومن دون أن يغير نبرة صوته تماما مثل الذين يحفظون دروسهم عن ظهر قلب من دون أن يتعمّقوا في فهم معانيها. لذلك أصبح في بضعة أسابيع ظاهرة من الظواهر الغريبة التي لم يألفها التونسيون لا في الخطاب السياسي، ولا في الخطاب الإعلامي.

وبسبب امعانه في ذلك، باتت تدخلاته تثير السخرية، وبها يتندر الناس في المقاهي، وفي الأماكن العامة . أما في وسائل الاتصال فقد نعته المدمنون عليها ب "الروبوكوب". ولم يعبأ هو بذلك، بل واصل صولاته وجولاته الإعلامية بنفس الطريقة المفخّمة، ضاغطا على الحروف حتى لكأنها من حديد. وشيئا فشيئا، أصبح يحظى لدى العامة من الناس الذين ضاقوا بالخطاب" الثوري الجديد" الذي جاءت به جل الأحزاب بكثير من الاهتمام فأقبلوا على سماع تدخلاته رغم أنهم لم يكونونا يفهمون معانيها، وفخامة لغتها تماما مثلما هو حالهم مع القرآن. ثم ازدادت قاعدته الشعبية توسعا بعد أن اعتقدت نسبة كبيرة من الطلبة والشبان الذين يعانون من البطالة، ويواجهون أوضاعا اجتماعية سيئة أنه يمكن أن يكون" الزعيم المنقذ". لذا تحلقوا حوله، وراحوا يرفعون من شأنه، ويمجدون "نظافة يده "، و"ثقافته العالية"، و"حبه للفقراء والمهمشين". وربما لهذا السبب أصبح هو يردد في كل الأماكن التي يرتادها، والمناطق التي يزورها شعاره المفضل "الشعب يريد" من دون ان يوضح محتواه ومعالمه، تاركا الآخرين في حيرة من أمره، وفي جهل تام بمقاصده. وكان يتحاشى دائما لقاء زعماء وقيادات الأحزاب الأخرى، ويتجنب حضور اجتماعاتهم وتظاهراتهم، مفضلا عليهم السلفيين المتطرفين، والفوضويين، و وواحد يدعى يلقب برضا لينين، وهو يساري قديم ظل يحتفظ ببعض أطروحات اليسار التونسي التي تعود إلى السبعينات والثمانيات من القرن الماضي. وبمساعدة هذا الأخير طاف قيس سعيد في جميع أنحاء البلاد خلال حملة الانتخابات الرئاسية بهدف كسب المزيد من الأنصار. وفي النهاية وجد نفسه رئيسا للبلاد.

ومنذ البداية أعلن الرئيس التونسي الجديد أنه لن يقيم في قصر قرطاج، مفضلا البقاء في بيته البسيط بحي "المنيهلة". وبسبب تنقلاته المكلفة ماديا، تتعطل حركة المرور يوميا، مجبرة الكثيرين على الوصول متأخرين إلى مقرات عملهم. وإلى حد الآن هو يحرص على الحفاظ على عاداته القديمة، كأن يشرب قهوته ويدخن سيجارته في نفس المقهى الشعبي، أو كأن يحلق شعره عند نفس الحلاق. كما أنه يحب أن يتردد بين حين وآخر على الأحياء الشعبية الفقيرة ليتحدث إلى أهاليها بلغته المفخمة والركيكة عن أوضاعهم البائسة. وفي زيارته إلى المناطق الداخلية، يلقي خطبا متشنجة، مخاطبا المشاعر والغرائز البدائية، ومطلقا تصريحات وعبارات تشي بالتحريض على الفوضى، وعلى النيل من الدولة، ومن مؤسساتها. ومن ابداعاته الشعبوية الأخيرة أنه ذهب جزيرة جربة ل"يبشر" التونسيين بأن بلادهم ستكون قادرة على صنع الطائرات، ناسيا أنهم مهددون بإفلاس اقتصادي لم يسبق له مثيل في تاريخهم المعاصر.

وخلال الأسابيع التي أعقبت دخوله إلى قصر قرطاج، ظل يستقبل بالأحضان شبانا عاطلين عن العمل، أو من يسمونهم ب" جرحى الثورة"، أو سلفيين متطرفين، مُتحاشيا لقاء شخصيات سياسية أو ثقافية مرموقة يمكن أن يستفيد من نصائحها ومن تجاربها. وبذلك أثبت مرة أخرى أن منهجه السياسي يقوم على الشعبوية الفوضوية التي قد تكون مدمرة للبلاد والعباد.

وعلى مستوى السياسة الخارجية، ارتكب الرئيس التونسي العديد من الأخطاء الفادحة. ففي العديد من خطبه، هو نصّبَ نفسه مدافعا عن "القضية المقدسة" التي هي القضية الفلسطينية، متوعدا كل من سماهم ب"المطبعين مع إسرائيل" بمقاضاتهم بتهمة الخيانة العظمى. لذلك سارع بعزل خميس الجيهناوي من منصبه كوزير للخارجية بدعوى أنه كان قنصلا لتونس في رام الله بعد توقيع اتفاق السلام بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في أول التسعينات من القرن الماضي. وقد تباهى بهذا القرار أمام الصحفي الفلسطيني عبد الباري عطوان مؤكدا له أن "القضية الفلسطينية هي قضيته الأولى".

ومثل هذا التصرف يقدم دليلا قاطعا على أن الرئيس التونسي ليس ملما فقط بأبجديات السياسة الخارجية، وبالوزن السياسي لبلاده، بل وأيضا بخفايا القضية الفلسطينية نفسها.

وفي النهاية، يمكن القول أن قيس سعيد ليس واعيا إلى حد هذه الساعة بمسؤوليته كرئيس لبلاد تتخبط في أزمات اقتصادية خطيرة، وتعيش محنا اجتماعية يومية، وتواجه وضعا سياسيا موسوما بالفوضى والهمجية والتسيب، والفساد في أبشع وأفظع مظاهره. وهو ظاهرة صوتيه، يتكلم لغة تكثر فيها الأخطاء، والعبارات المُسْتَخْرَجة من مقابر القواميس. وتجاه القضية الفلسطينية، هو يستعيد خطابا حماسيا قديما يذكر بإذاعة "صوت العرب" التي كانت تهز مشاعر الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج قبل أن تثبت خواءها وسطحيتها اثر هزيمة 67 المرة.