في ظل ما يعيشه العالم أجمع من أجواء أزمة تفشي فيروس "كورونا"، وفي ظل وتيرة تسارع انتشار الفيروس في الولايات المتحدة، تتنحى جميع أسئلة السياسة جانباً، وتصبح الأولوية للحديث عن "كورونا" وانعكاساتها وآثارها، ولكن السياسة لا تغيب بالتأكيد عن بال الكثيرين، وفي مقدمتهم القادة والزعماء، لاسيما من سيواجه صناديق الاقتراع والناخبين في النصف الثاني من العام الجاري، حيث تشير التوقعات إلى احتمالية انحسار الأزمة وانقشاعها وبدء التعافي من آثارها الوخيمة على الاقتصادات والشعوب.

في الولايات المتحدة على سبيل المثال، من المقرر أن تجرى الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل، ورغم أنه من الصعب الآن التيقن تماماً من امكانية انعقاد هذه الانتخابات في موعدها بسبب ظروف تفشي الوباء ومن ثم تأجيل الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لاختيار مرشح الحزب لخوض الانتخابات في مواجهة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، فإنه في جميع الأحوال يمكن القول أن الأزمة قد أطاحت بمؤشرات الأداء الايجابي القوي للاقتصاد الأمريكي، والتي تمثل أحد رهانات الرئيس ترامب للفوز بولاية رئاسية ثانية، حيث تشير التقارير إلى أن الأزمة قد خلّفت تداعيات كارثية على الاقتصاد الأمريكي وأن معدلات البطالة في مرحلة مابعد الأزمة ستحقق أرقاماً قياسية قد تصل إلى 13%، وفق تقديرات بعض المؤسسات الأمريكية.

واعتقد أن المشهد الانتخابي الأمريكي ـ بغض النظر عن احتمالية انعقاد الانتخابات في موعدها أو تأجيلها لفترة، لم يتغير كثيراً وأن الأمر لن يخرج عن أحد سيناروهين أولهما ميل الناخب الأمريكي لمعاقبة الرئيس ترامب على أدائه الفاتر وربما السلبي في بدايات أزمة تفشي فيروس "كورونا"، ومن ثم اختيار المرشح الديمقراطي بديلاً له، وثانيهما أن تتسبب الأزمة في حالة عامة من القلق و الضبابية والتشوش العام في المزاج الشعبي الأمريكي بحيث يصعب وقتذاك المجازفة باختيار بديل للرئيس ترامب، وايثار السيناريو القائم على استمرار وجوده في البيت الأبيض حفاظاً على قوة الدفع الوطنية للتغلب على الأزمة، ورغم أن هذا السيناريو هو الأرجح ـ من وجهة نظري ـ فإن فرص حدوثه تعتمد بدرجة كبيرة على مسارات الأزمة ونتائجها في الأشهر القلائل المقبلة، وما يمكن أن تسفر عنه من ضحايا وخسائر اقتصادية، فضلاً عن ـ وهذا هو الأهم ـ مستوى رضا الناخبين الأمريكيين عن أداء الرئيس ترامب في بقية مراحل الأزمة وقدرته على قيادة الأمة الأمريكية في ظل هذه الظروف والحد من الخسائر وصياغة الخطط ورسم السياسات العلاجية الفاعلة التي تضمن سرعة التغلب على آثارها الاقتصادية والاجتماعية.

لا يمكن ـ بداهة ـ انكار أن الرئيس ترامب قد ارتكب أخطاء بشعة في بدايات الأزمة، ويكفي أنه تسبب في تأخر الولايات المتحدة لشهرين كاملين عن دول مثل كوريا الجنوبية وألمانيا في التصدي للوباء، حيث ظلت السلطات الأمريكية تنتظر حتى منتصف مارس لاتخاذ أول إجراء وطني فاعل في مواجهة تفشي فيروس "كورونا" في حين كانت كوريا الجنوبية ـ على سبيل المثال ـ قد بدأت خططها الوقائية على المستويات الصحية والبحثية في العشرين من يناير الماضي، أي أن الولايات المتحدة تحركت بعد اشتعال النيران كما وصف أحد الكتاب الأمريكيين، وبالتالي تسبب التأخر في تعطيل القدرات وارتفاع أعداد المصابين والضحايا لتصبح الولايات المتحدة على رأس قائمة الانتشار الجغرافي للوباء عالمياً، بما يعنيه ذلك من تداعيات ليس على الصعيد الانساني والاقتصادي فقط، بل على المستوى الاستراتيجي أيضاً، بحكم مكانتها كقطب عالمي لا تنازعه قوى أخرى على النفوذ والسيادة والتقدم العلمي والتكنولوجي.

التباطؤ الأمريكي في التصدي للخطر لم يكن بسبب اخفاق مؤسسي، بل جاء بسبب رؤية الرئيس ترامب الذي يبدو أنه اعتمد في بدايات الأزمة على تقديرات شخصية غير سليمة قُدمت له من مقربين، وتجاهل تقارير الاستخبارات الأمريكية، وجميع آليات العمل المؤسسي في إدارة الأزمات العالمية، واكتفى بتقديرات دفعته لبناء تصور وهمي قائم على التهوين من قدر الأزمة أحياناً واعتبارها خداع من جانب منافسيه الديمقراطيين أحياناً أخرى، حيث ذكر في أحد تصريحاته "إنه جيد لأميركا في الواقع" في إشارة إلى ماقد يسببه الفيروس من خسائر للصين، وقوله أيضاً أنه خدعة تقف وراءها وسائل الإعلام والديمقراطيين، وقبلها في نهاية فبراير كان قد هون من خطر تفشي الفيروس في الولايات المتحدة واعتبره "متدن جداً"، وإن الطقس الدافىء كفيل بحل المشكلة، وغير ذلك من تصريحات كارثية يتمنى بالتأكيد اختفائها من شبكة المعلومات وذاكرة التاريخ.

كل هذه الأخطاء ستكون بالتأكيد رأس حربة السهام والطلقات السياسية التي سيطلقها باتجاهه خصمه المرشح الديمقراطي المنتظر في حملة الانتخابات الرئاسية المقبلة، وكي لا يتهمني أحدهم بأنني اقفز على المشهد بتناولي لفرص الرئيس ترامب في الانتخابات المقبلة وأثر الأزمة على ذلك، فإنني اشير إلى أن الموضوع ليس غائباً عن أولويات الرئيس ترامب ذاته، فهو قد هون من خطر الفيروس لمدة شهرين حفاظاً على معدلات أداء الاقتصاد الأمريكي، والآن تتهمه بعض التقارير الصحفية باستغلال الأزمة العالمية في الترويج لحلفائه من الشركات الداعمة له في الانتخابات المقبلة من خلال دعوة ممثلي هذه الشركات لاجتماعات والاشادة بدورهم الوطني في مواجهة الأزمة عبر الإنتاج أو التبرعات بالمعدات الطبية، من أجل تلبية الاحتياجات الأميركية الأكثر إلحاحا، وفي هذا الإطار ذكرت صحيفة "الجارديان" البريطانية أن الاحاطة اليومية لخلية أزمة "كورونا" قد أصحت "سيئة السمعة" بتحولها إلى وسيلة للإشادة بقيادة ترامب، وتشير تقارير أخرى إلى أن حكام الولايات يشتكون نقصا في أجهزة التنفس الاصطناعي وأقنعة الوجه والعديد من المعدات الطبية الأساسية بما يتناقض مع محتوى الخطاب الاعلامي الصادر عن البيت الأبيض، أي أن الأمر قائم فيما وراء سياسات البيت الابيض ولا يغيب عن الذاكرة في هذا التوقيت الحساس.

ولاشك أن الموضوعية تقتضي في الأخير القول بأن فرص الرئيس ترامب في الفوز بانتخابات نوفمبر المقبل لا تزال قائمة بشدة، رغم كل الأخطاء التي ارتكبت في معالجة أزمة "كورونا" وانكشاف الولايات المتحدة عالمياً بشكل لا يتناسب مع قدراتها ومواردها، والأمر سيتوقف على عوامل محددة منها سيناريو نهاية الأزمة وكفاءة التسويق السياسي والاعلامي لفريق حملة ترامب الانتخابي، فضلاً عن فاعلية توظيف الديمقراطيين للأخطاء وقدرتهم على اقناع الناخبين بخطابهم، والأهم هو هوية من سيختار الحزب الديمقراطي لمنافسة رئيس لن يفرط بسهولة في فرص الفوز بولاية رئاسية ثانية.