يتداول العالم اليوم بتوقيت كورونا خطاب مضاد للعادة حيث يتوجه قادة العالم إلى شعوبهم بنداء مضاد للثقافة السائدة، التي كانت تتمحور كثيرا حول مفهوم الواجب والمسؤولية إلى مرحلة الحديث عن "الانضباط الذاتي وعن القرار الهادئ". وهي بصراحة خصال لم نعد نميل إلى تقديرها وتثمينها مؤخرًا. فأحد الأشياء التي نقدرها في الحياة الحديثة هو الحق في الحياة والحرية والسعي وراء تحقيق السعادة.

إن فكرة أن يكون لكل منا الحرية في متابعة طموحاتنا ورغباتنا طالما أننا لا ننتهك حقوق الآخرين في القيام بنفس الشيء هو جزء من الحجر الأساس للديمقراطية الليبرالية.

فمنذ فرويد، كنا مقتنعين بأن أعمق دوافعنا، سواء أحببنا ذلك أم لا، هي التي تحدد من نحن، وأن قمعها أمر ضار لنا ونحتاج بطريقة ما السماح لها بالعثور على منفذ تظهر من خلاله. لقد علمنا جون ستيوارت ميل أن التعبير عن الذات الفردية يتفوق على تحقيق التوافق الاجتماعي. كما علمتنا لغة حقوق الإنسان الإصرار على استحقاقاتنا الفردية وأن نتحول للمحاربة من أجلها عندما تكون مهددة في وجودها.

لقد أصبحت فكرة ضرورة "القيام بواجبك"، ليست هي الأساس القوي للمجتمع، بل مطلبًا أخلاقيًا باهتًا ورماديًا، إننا أمام ملاحظة متكررة وهي أنه في العالم الحديث لم يعد لدينا فكرة مشتركة عن ماهية الحياة الجيدة، بل نحن مدعوون جميعا لبناء كل واحد فينا نسخته الخاصة به. ويشير عالم الاجتماع الألماني هارتموت روزا إلى أنه في حين أن هذا الأمر قد يكون صحيحًا، إلا أننا لدينا اتفاق عالمي تقريبًا على الشروط الضرورية المسبقة لهذه الحياة المتميزة بالتسارع والتغير المستمر نحو الهاوية بالإقبال على كل ما هو مادي. إذ مقياس الحصول على وجود سعيد وجيد، أياً كان شكل هذا الوجود الذي تريده، فأنت بحاجة إلى ما يكفي من المال والأصدقاء والمعرفة والصحة والحقوق لتحقيق كل ذلك. "تأمين الموارد التي قد تحتاجها لتعيش حلمك، مهما كان نوعه. هذه هي الضرورة العقلانية الغالبة للحداثة " والنتيجة أن كل واحد منا يتنافس على الموارد التي تسمح لنا بأن نعيش نسختنا الخاصة من الحياة الجيدة.

الآن، كل هذا التصور خرج عن رؤية أقدم للمجتمع وجدت في التقليد الكلاسيكي لأرسطو وأفلاطون واستمرت إلى حد ما في العالم المسيحي، واعتبرت أن ضبط النفس أمر حيوي لمجتمع صحي. فقد كتب القديس بولس، على سبيل المثال، عن الكيفية التي يجب أن يكون بها القادة "مسيطرين على أنفسهم، وصالحين، ومقدسين ومنضبطين". في هذا التقليد الأخلاقي لا يمكن إبطاء الانجراف المستمر نحو الاستبداد إلا بالفضيلة وحكم الذات وممارسة الرقابة الذاتية نحوها. كانت الحكومة من أجل "البوليس" ممكنة فقط مع الاستقلال الذاتي. لم يُنظر إلى الحرية على أنها حرية لتحقيق الأهواء ولكن حرية التحرر من الأهواء والانفعالات – التي تفهم على أنها عواطف واندفاعات لا يمكن التنبؤ بها وعاصفة تزعج الروح وتشوه وضوح الرؤية التي تأتي من قلب هادئ ورأس واضح. كانت هناك حاجة للسيطرة على تلك الحوافز الداخلية بدلاً من الإستسلام لها. وكانت هذه السيطرة تكون أفضل حين تفرضها الذات على نفسها بدلاً من أن تنظمها الدولة بطريقة فوقية.

في وقت ما، كان يمكن اعتبار هذا بمثابة الفرق بين وجهات النظر المحافظة والتقدمية للأخلاق، أو بين وجهة نظر اليمين واليسار. ومع ذلك كما أظهر باتريك دينين في كتابه الثاقب الذي يحمل عنوان "لماذا فشلت الليبرالية؟"، فنحن نظهر في هذه الأيام جميعًا تقدميون. تنظر الديمقراطيات الليبرالية الحديثة إلينا جميعًا كأفراد مستقلين يجب تحريرهم من قيود الواجب أو مطالب الآخرين وبدلا من ذلك اتباع رغباتنا. والفرق الوحيد هو أن اليمين يرى السوق والحد الأدنى من تدخل الدولة كمفتاح للتمكين من هذه الحريات الشخصية، في حين يرى اليسار أن سيطرة الدولة وتنظيمها على أنها الطريقة التي سيتم بها إنشاء هذه الحريات وحمايتها. في الأسابيع القليلة الماضية، رأينا شيئًا غير عادي. فدون الكثير من التهديد القانوني خضعنا طوعًا للامتناع الشديد عن ممارسة ما وهبه لنا المجتمع الحديث من حريات فردية، وحرمنا أنفسنا من الحق في الاختلاط بحرية، والذهاب إلى الأماكن العامة مثل الأسواق والحانات والمطاعم، أو الذهاب للملاعب لمشاهدة الرياضة الحية، والمصافحة، والسفر إلى العمل. وبينما نمر في هذه الفترة من النكران الجماعي الذاتي، وقمع طموحاتنا ورغباتنا الشخصية، نحن نتعلم كيفية إعادة توجيه رغباتنا الشخصية من أجل خير أكبر، والتضحية بما نود عادةً القيام به من أجل خير الجميع. نحن نتعلم الآن أنه لكي يعمل المجتمع وينجح في درء التهديدات التي تواجهه، فإن عليه أن يجعل من تحديد أولويات الخيار الفردي وحده أمر غير كافي.

لا يمكن للمجتمع البقاء على قيد الحياة إذا سعى كل واحد منا إلى تحقيق أهدافه التي اختارها لنفسه بشكل مستقل عن الجميع. علينا ممارسة سياسة ضبط النفس، و"الانضباط الذاتي"، لنتعلم القدرة على التضحية برغباتنا الخاصة من أجل المجتمع الأوسع. لمواجهة التحديات التي يحتمل أن تكون أكثر خطورة من تغير المناخ، أو القضاء على الفقر العالمي، على سبيل المثال، سوف نحتاج إلى ممارسة أكبر قدر وأطول تمرين في ممارسة سياسة ضبط النفس. السؤال الذي يطرح هنا هو، عندما ينتهي كل هذا، ما

إذا كنا سنعود إلى ما اعتدنا عليه في الماضي القريب، أو ما إذا كنا سنستعيد شيئًا من التوازن بين متطلبات الطموح الفردي والصالح العام. إن مفهوم أننا متلقون للخير الذي لم نخلقه، الرائج في بعض الديانات" يعلمنا أن نقول" لا "لعدم التقوى وللأهواء في العالم، وعلينا أن نعيش بطريقة تمكننا من السيطرة على الذات، ذات مستقيمة وتقية تعيش في هذا العصر الحالي. "ولكن ما لم نتمكن من تعلم العيش حياة منضبطة ومضبوطة، مثل تلك التي يجب أن نعيشها الآن، فلن يكون هناك مستقبل كبير لكوكبنا أو للأشخاص الذين يعيشون عليه. ربما يمنحنا الفيروس التاجي مسارًا سريعًا في عالم أخلاقي مختلف - عالم يمكن أن ينقذنا من ذواتنا التي تربت على أساس تقدير أخلاقيات مصالحها الذاتية على حساب أخلاقيات المصلحة الجماعية.