الضائقون بالقرن العشرين، وبحروبه، ونزاعاته المدمرة للإنسان وللطبيعة تستهويهم العودة على القرن التاسع عشر، قرن الطموحات والآمال الكبيرة، والتحولات الهائلة، والتطلع إلى الحرية... ذلك التطلع التي عبرت عنه ثورات وانتفاضات عديدة، لعل أهمها ثورة الشعوب الأوروبية في عام1848.
وبرى الفرنسي جاك جوليار أن القرن التاسع عشر هو القرن الذي فيه فرض الفرد وجوده بعد انهيار النظام الملكي، وتقلّص نفوذ الاقطاع والكنيسة بسبب الثورة الكبرى التي هزّت فرنسا في عام1789. ويضيف جاك جوليار قائلا بأن مجتمع الأفراد الذي كان يعكسه القانون المدني في عهد بونابارت، كان أمرا جديدا في التاريخ. فإلى أن ظهرت الحداثة الغربية، كانت كل الحضارات التي سبقتها كليانيّة، رافضة لوجود الفرد ضمن تركيبتها الاجتماعية كما يشير إلى ذلك مؤرخ الفكار لوي ديمون. وكانت هذه الحضارات تنظر إلى المجتمع ككل يقوم على الطبقات والمراتب، وبالتالي هو الأول الذي يؤخذ بعين الاعتبار بالنظر إلى العناصر التي تكونه. أما في الرؤية الفردانيّة التي انتصرت في في القرن التاسع عشر، فإن الفرد أصبح يُنْظَرُ إليه كما لو أنه تجسيد للإنسانية بأسرها. وعلى هذا الأساس هو جدير بالاحترام والتقدير".

وكانت فلسفة الألماني كانط تجسيدا كاملا لهذه الفردانية الحديثة. ويقول جاك جوليار :"علينا أن نتصور القرن التاسع عشر قرنا سعيدا فيه توصّلت كل من الفردانية والمساواة إلى أن يتقجدما على المستوى نفسه كإ رث بوجهين للثورة الفرنسية التي تكفّل المجتمع الفرنسي باستقبالها وتطويرها".

وكان القرن التسع عشر قرن العظماء من الأدباء والشعراء والمفكرين والفلاسفة والعلماء. هو قرن هيغل وهولدرين ونيشته وشوبنهاور في ألمانيا. وقرن ديكنز وجين أوستين اللورد بايرون وكيتس وبقية الرومانسيين. وفي الولايات المتحدة، كان قرن هاوثورن، وادغار ألن بو، ومارك توين، ووالت ويتمن. وفي فرنسا، كان قرن فيكتور هوغو الذي أبدع في النثر كما في الشعر. لذلك كتب عنه أحدهم يقول :" هوغو هو القرن. وكل القرن التاسع عشر يتلخّصُ من خلاله: الكهرباء، والجمهورية، والدراما، والمال، والزوجة الخائنة، والآلة البخارية، والقبعات الروسية، والتقدم، واللغة الدارجة، والسيف، والماء المقدس، والمصعد المائي، وأوهام الاشتراكية التي خنقتها تعاليم الانجيل، واللحية "آه اللحية البيضاء المكعبة، الرائعة، المهيبة، لحية فيكتور هوغو".

وكان فيكتور هوغو قد جاء إلى الدنيا في فترة كانت فيها نيران الثورة الفرنسية لا تزال مشتعلة، أو هي كامنة تحت الرماد، ومارس النشاط السياسي، فكان ملكيّا ،وكان جمهوريا، وكان يساريا، وكان فوضويا بطريقته الخاصة. وكان قد التقى بشخصيات كبيرة طبعت عصره مثل البريطاني شارل ديكنز، والثوري الروسي باكونين، والموسيقي بارليوز، والرسام ديلاكروا. وبسبب معارضته للنظام الملكي الذي قَمَعَ ثورة 1848، اضطر صاحب "البؤساء" إلى مغادرة بلاده ليعيش سنوات طويلة في المنفى. وعندما توفي في أول شهر حزيران من عام1885، سار في جنازته آلاف المعجبين والمعجبات. فكانت أضخم جنازة شهدتها فرنسا في القرن التاسع عشر.
وكان القرن التاسع عشر قرنَ العلم والعلماء من أمثال باستور مكتشف دواء السل، وكلود بنار، والعديد نحمن العلماء الغربيين الذين أحدثوا ثورة في مجال الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والطب وغير ذلك. وكان قرن صاند، الكاتبة الفرنسية التي تحدّت تقاليد المجتمع المحافظ، ولبست البنطلون، وترددت على نوادي الرجال وحدها لتصبح مثالا ساطعا للمرأة المتحررة والقوية الرافضة لثقافة المجتمع الرجولي وعنفه وقسوته. وكان قرن لويز ميشال التي قادت "كومونة باريس"، وحُكم عليها بالإبعاد. لذا حظيت بلقب "العذراء الحمراء". أما أعداؤها فقد لقبوها ب" الذئبة النهمة للدم".

وتقول الفرنسية مونا أزوف بإن القرن التاسع عشر "يتيم حُرمَ من إرثه، وجُرّدَ منه"...و"كان طفلا في قلب ضجيج ثورة". وقد "أمضى سنوات شبابه في ظل النظام القاسي للمعسكرات وساحات المعارك". ولم يكن "يعرف والديه ، فهل هم ضحايا أم قتلة، أم الاثنان معا". وكان "يبكي سلالته المفقودة راغبا في نسيان كل شيء".