أنشأ بعض أبناء الجزيرة الفراتية، مجموعة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، تختص باللهجة الفراتية لسكان الجزيرة وتتناول عاداتهم وتقاليدهم، سرعان ما اشترك فيها ما يزيد على الخمسة وعشرين ألف مشترك، وحازت المجموعة على الكثير من المشاركات الساخنة، من شرح المفردات الخاصة باللهجة، إلى نقل الأشعار والأغاني والقصص الفراتية، والتعليق عليها، بالإضافة للمفاخرة بالعديد من أسماء المفكرين والكتاب والشعراء والموسيقيين المنحدرين من جزيرتهم.

أعضاء في تلك المجموعة أشاروا للصورة السلبية التي روجت لها الدراما السورية عن سكان الجزيرة الفراتية، مما دفعني إلى العودة إلى الدراما السورية لاستكشاف تلك الصورة السلبية التي كرستها عن الشخصية الفراتية.

عند مراجعة عدد من الأعمال الدرامية التي قدمت شخصيات من تلك المنطقة، أو تلك التي تناولتهم، قد تبدو لوحة "كلام حريم" في المسلسل الكوميدي "بقعة ضوء" من أكثر الأعمال الدرامية التي أساءت لسكان الجزيرة الفراتية، ويمكن الاستدلال على ذلك من حجم التعليقات على الحلقة المنشورة على موقع اليوتيوب. لكن الحقيقة أن كاتب تلك اللوحة، عدنان زراعي (معتقل في سجون النظام السوري)، كتبها رداً على فيلم أخرجه عدنان عودة وسامر برقاوي وحمل ذات العنوان "كلام حريم". والعودة الذي ينحدر المنطقة، جاء فيلمه "الوثائقي" مسيئاً لسكان الجزيرة الفراتية وعاداتهم، لأنه يضلل المشاهد عبر إظهار وظيفة المرأة الفراتية بكونها لا تتجاوز الإنجاب والعمل خدمة للرجال. إذ تظهر في الفيلم عائلة لرجل متزوج من امرأتين ولديه سبعة عشر ولد، ليبدو أنه مثال للأب الفراتي، الأب غير المبالي بأولاده وتربيتهم. لكن العودة يعرف جيداً أنه في ذات القرية آباء يكدحون لتعليم أولادهم في المدن الكبرى، وشباب لم يخدموا في الجيش لأنهم وحيدون، مما يعني أن العدد الكبير لأفراد الأسرة ليس مثالا نموذجياً، والكثير من العوائل في الجزيرة لا يتجاوز عدد أفرادها أصابع اليد الواحدة. كما أنه ليس سمة خاصة بسكان الجزيرة، فهو موجود عند كل سكان المنطقة العربية. هناك إذاً قصدية واضحة وفجة في التضليل حيث تقدم هذه الأسرة كنموذج للسكان في الجزيرة. ومن خلال مشاهد الفيلم تظهر أيادي النساء وهن يعجن الطحين، ويخبزن، ويغسلن الثياب، ثم يظهر رجل متأنق يرتدي قفازين لونهما أبيض، ليتبادر إلى ذهن المشاهد، بأن الرجال لا يعملون، أو لا يلوثون أياديهم بالطين، في حين أن الرجل يرتدي قفازين ليقود دراجته النارية، التي لا تظهر واضحة في اللقطة. مقطع آخر في الفيلم يظهر نساء يجمعن الحطب ويقف بجانبهن طفل، يطلب منه المخرج مساعدتهن فيأبى ذلك، كما لو أن الترفع عن العمل عادة تورث للأطفال أيضاً.

القاصي والداني يعلم أن الرجال في الجزيرة الفراتية يحرثون ويبذرون أرضهم ويسقون ويحصدون زرعهم، وتعيش سوريا كلها على زراعتهم. وفي أوقات قطاف القطن يشركون النساء في العمل لأنه يتطلب جهداً أقل، فالنساء اللاتي يعملن في القطن، إما يعملن في أراضي العائلة، أو يعملن بأجر يومي يعتمد على وزن القطن الذي يقطفنه، ولا يقمن بذلك خدمة للرجال. وفي الغالب الأعم تحتفظ المرأة بعائد عملها لنفسها، وعملها في الفلاحة فهذا لأنه العمل المتوفر في بيئة زراعية، ولا ندري متى أصبح عمل المرأة عاراً. وتعيير السكان بأن نسائهم تعمل هو نتاج عقل ظلامي لا يرى في المرأة سوى مقراً لشهواتهم.

أما عمل المرأة في جمع الحطب، والذي ركز عليه الفيلم في لقطاته، يندرج ضمن وظائف المطبخ اليومية التي تمارسها كل نساء المنطقة العربية. وبالمناسبة فالنساء في تلك المنطقة في الغالب يجمعن القش من مخلفات المحاصيل الزراعية والذي يستخدم بشكل أساسي لإيقاد نار خبز الصاج التي تنطفئ سريعاً، وتُشعل من الأعواد الرفيعة، لكن الرجال هم من يحضرون الحطب الغليظ الذي يستخدم في المناسبات وهم من يقطعونه بالفأس لإشعال النار وطبخ الذبائح وتحضير القهوة في المضافات.

العودة مخرج الفيلم درس في المعهد العالي في دمشق، وبدلا من أن يتعلم صناعة الأفلام الحقيقية، استشرق في مسقط رأسه، ونظر إليه بعيون فينيقية إذا جاز التعبير، وهو ما ينسجم مع أشعاره وغزله بمدينة الياسمين باللهجة الشامية المحكية، تقليداً لطريقة الشعراء اللبنانيين الذي يدورون في فلك الشاعر طلال حيدر، أما بعض الكتابات الغنائية التي كتبها، وأطلق عليها مسمى الموليا، وجاء ذلك بعد تداول كتاب وأشخاص من المنطقة لتراث الموليا على شبكات التواصل ورواج هذا النمط الغنائي وحصوله على إعجاب المتابعين، فهي لا علاقة لها بالموليا الفراتية سوى اسمها، وهذه الكتابات تنتحل اسم الموليا، التي لها قواعد في الكتابة واللحن يبدو أن العودة يجهلها تماما وإلا لما أطلق على كتاباته هذا الاسم.

نعود للوحة عدنان زراعي في بقعة ضوء، والتي لا تنتقد سكان الجزيرة الفراتية كما ظن بعض أبنائها، إنما تنتقد فيلم العودة ذاته. اللوحة تبدأ بعبارة "في مكان ما.. يبعد عن العاصمة عدة كيلومترات" للرد على العبارة التي تظهر في فيلم العودة والتي تقول "زور شمر 2006. 370 كيلومتر شمال شرق دمشق"، ولا يبدو أن زراعي قصد تكذيب مكان التصوير بقدر إيصال رسالة مفادها، أن ما صوره العودة في زور شمر تجد مثله أو مقارباً له في مناطق قريبة جدا من العاصمة. ويضيف زراعي في لوحته ببقعة ضوء التي سارت على إيقاع فيلم العودة، عبارة" قرية حران الفجل"، وهي عبارة زائدة، حيث أن فيلم العودة لم يعرّف القرية، وربما اقحم الزراعي اسم حرّان كونها لا تقع في سوريا الآن.

ما يبرئ زراعي بشكل أكبر، أنه لم يكتب لوحة أخرى لبقعة ضوء تستهزء بسكان الجزيرة الفراتية، وهو ما فعله العودة في حلقة "انتخابات حرة" التي تقول بالمختصر، أن الديمقراطية لا تصلح لهؤلاء البشر، وحلقة "ابن الجمل" والتي يدل اسمها على مضمونها.

فلماذا أدان الفراتيون لوحة زراعي ولم يدينوا فيلم العودة؟ أعتقد لثلاثة أسباب، الأول؛ العصبية، حيث ينحدر العودة من منطقتهم. (ذكره بعض أعضاء المجموعة السابق ذكرها، ضمن الأسماء الفراتية المعروفة). والثاني؛ الطابع الكوميدي للوحة الكاتب المعتقل الزراعي، والتراجيدي لفيلم الكاتب والشاعر المبتعث إلى أوروبا. إذ أن الثقافة العربية تقدم الكوميديا بشكل عام بمفهوم الذم، والتراجيديا بمفهوم المدح، منذ ترجم إسحاق بن حنين (830 - 910 م) كتاب "فن الشعر" لأرسطو، حيث ترجم الكوميديا بمعنى الذم بدلاً من الملهاة والتراجيديا بمعنى المدح بدلاً من المأساة، وهو ما يشير إليه الكاتب الأرجنتيني بورخيس في قصته "بحث ابن رشد" ووجد أن الترجمة الخاطئة للكوميديا والتراجيديا أضاعت على ابن رشد فرصة اكتشاف المسرح في الثقافة العربية. أما السبب الثالث؛ فهو ما ينطبق على جميع الأعمال الدرامية السورية التي تناولت الشخصية الفراتية، والتي بدلا من أن تؤنسنها عند تقديمها عبر الكوميديا، وتحمّلها بالمفارقات الطريفة، تسبغ عليها طابعاً من الجهل والتخلف والمظهر المتوحش، كشعرها الأشعث وملابسها الرثة، وتقليد إيحاءاتها الجسدية بطريقة تهريجية مبتذلة، والمبالغة في تقليد لهجتها؛ برفع نبرة الصوت ومط الكلام واستخدام حرف "الـ تش" الذي لا يوجد له مقابل في اللغة العربية في مواضع خاطئة، بدلاً من محاولة إتقان اللهجة الفراتية. فعلى سبيل المثال تم تقديم الشخصية الفراتية في "لوحة كازانوفا"، كشخصية لا تنظر إلى المرأة سوى كسلعة للاستهلاك الجنسي، وتوقع هذه الشخصية نفسها والآخرين بالمشاكل بسبب تدني وعيها، وتعرقل عمل الدولة بدل أن تدفعه للأمام كما في "لوحة نهاية خلف"، ولا تجيد التعامل مع التطور التكنولوجي كما في "لوحة هاتف نقال" وغيرها الكثير.. رغم أن ما يقدم عن الشخصية الفراتية ينطبق على جميع الشعوب، لكن الدراما السورية نمّطت هذه الشخصية ضمن إطار الجهل والتخلف و الرثاثة بكل دم بارد وعنصري.

هذا التقديم للشخصية الفراتية، يأتي على العكس تماما من تقديم الشخصية العلوية الساحلية، التي تصبح شخصية محببة إذا وضعت في دائرة الكوميديا، وذلك عبر أنسنتها وأنسنة نوازعها رغم كل الوحشية التي ترافقها على أرض الواقع في ممارسات النخبة الحاكمة والمسيطرة وتابعيها من أبنائها. وهو ما ينطبق أيضاً على تلقيد لهجة أهل السويداء وملابسهم الزاهية وغترهم (مناديلهم) ناصعة البياض أو أهالي حمص أو غيرهم ممن وضعتهم الدراما السورية في دائرة الكوميديا.

الأمثلة كثيرة على الانتهاكات والتصورات المبتذلة والشتائمية والعنصرية التي تعرض لها الفراتيون بمختلف إثنياتهم على يد الدراما السورية، ولو بحثنا عن أمثلة مغايرة في نتاج الدراما السورية عن سكان الجزيرة الفراتية، فلن نجد أعملاً تسعفنا لتبرئتها، سوى مسلسلي "الغريب والنهر" الذي كتب له السيناريو عمار المصارع، و"النهر سلطان" الذي كتبه الأديب الراحل عبد السلام العجيلي وهما من أبناء الجزيرة.