أجمعت ردود الفعل الوطنية والعربية والدولية حول رحيل عبد الرحمن اليوسفي، الوزير الأول ( رئيس الوزراء) في حكومة ما درج المغاربة على تسميته ب"التناوب التوافقي" كشكل من أشكال التحول الديمقراطي، على الدور الطلائعي الذي اضطلع به هذا القائد السياسي خلال الفترة الممتدة ما بين 1998 – 2002 ليس فقط على مستوى بلده المغرب وانما على المستوىالعربي والدولي، مما جعله يدخل التاريخ من بابه الواسع، كأحد القادة السياسيين الذى بصموا الحياة السياسية خلال القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين.

وإذا كانت الطبقة السياسية بمختلف تياراتها، ووسائل الإعلام المحلية والدولية، قد ركزت في شهاداتها وتحليلاتها وتعاليقها على إبراز الجوانب السياسية والحقوقية، للراحل اليوسفي" شيخ الاشتراكيين المغاربة"، الذى توفي في 29 مايو الماضي عن عمر 96 عاما،الى جانب كونه أحد رجالات المقاومة وقادة الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي وفي معركة بناء المغرب الحديث، فإن دوره في مجال السياسة الدولية والعمل الدبلوماسي، لم يحظ بنفس الدرجة من الاهتمام، على الرغم من النجاح الكبير حققته الدبلوماسية المغربية خلال قيادته لتجربة "التناوب التوافقي"، كشكل من أشكال التحول الديمقراطي.

وكان العاهل المغربي الملك محمد السادس أشاد في برقية تعزية ومواساةبمناقب اليوسفي " وبما كان يتحلى به من خصال إنسانية ومن غيرة وطنية صادقة جسدها على مدى عقود من مساره النضالي والحقوقي والسياسي"،موضحا أنه "بصم بشخصيته وبأسلوبه المتميز القائم على المسؤولية والالتزام الواضح بالمبادئ والاخلاص والوفاء في محلة من تاريخ بلده الحديث".

باعتبارها "فن الحصول على الممكن بدلا من الحصول على المستحيل " ، ونتاج عمل جماعي مؤسساتي ومجتمعي، فإن الدبلوماسية تعتبر أيضا تطبيقا للسياسة الداخلية لأي بلد من البلدان ، بيد أن اليوسفي، لعب من موقعه كوزير أول وخبرته الطويلة وشخصيته الكاريزمية، دورا حاسما في تنشيط الدبلوماسية المغربية، وذلك عبر تنويع العمل الدبلوماسي للمملكة على المستوى الدولي من خلال توجيهه إلى مناطق وجهات جديدة عبر العالم منها أمريكا اللاتينية وافريقيا وآسيا وأوروبا الوسطى والشرقية،والشرق الأوسط، بغية انعاش وترسيخ صورة إيجابية عن البلاد في مختلف مناطق العالم لاسيما في ما يتعلق بميدان الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان.

فحصيلة السياسة الخارجية في عهد اليوسفي ، تميزت بما أطلق عليه ب"الاكتساح التاريخي لدبلوماسية المملكة المغربية" التي كانتعناوينها البارزة، قضية الدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة وشرحها في المحافل الدولية، وإنعاش ودعم الديبلوماسية الاقتصادية، بإشراك الفاعلين الاقتصاديين بالقطاعين العام والخاص.
وبهدف تقوية وتنويع النشاط الدبلوماسي للمغرب، قام الراحل اليوسفي على رأس وفود تتكون من مسؤولين سياسيين ومنتخبين ومن فاعلين اقتصاديين، بزيارات رسمية قادته الي مناطق مختلفة من العالم على مدار الأربع سنوات التي استغرقتها تجربة حكومة التناوب (1998 -2002)، وهو ما مكن من التعريف بالتحولات السياسية والمؤسساتية التي كان يشهدهاالمغرب، وبالتحسيس بعدالة قضية وحدته الترابية وبالمؤهلات الاقتصادية والسياحية الوطنية وتعزيز النسيج القانوني للاتفاقيات التي تجمع المملكة مع هذه الدول، وبناء علاقات اقتصادية وتجارية معها.

وفي ظل هذه الدينامية الدول شكلت قضية الدفاع عن الوحدة الترابية المغربية، أولى الأولويات في العمل الدبلوماسي لهذه المرحلة. وتبلورت هذه المجهودات في اعقاب جولات اليوسفي بعدد من البلدان بمختلف القارات قام عدد لا يستهان به من الدول، بسحب أو تجميد الاعتراف بما يسمى ب"الجمهورية الصحراوية" أو اغلاق تمثيلياتها. ففي ظرف أربع سنوات زار اليوسفي أزيد من 20 دولة. فكان اليوسفي يعود الى أرض الوطن بغنائم لم تتوقع أعلى أجهزة الدولة تحصيلها" كما جاء في كتاب " التناوب الديمقراطي المجهض" للصحفي محمد الطائع.

وبفضل هذه الدينامية التي أسبغها اليوسفي على العمل الدبلوماسي خلال ولايته تم في مجال الدفاع عن الوحدة الترابية تحقيق عدد من الاختراقات في بعض المعاقل التي كانت الى وقت قريب مجالا خصبا وحدائق خلفية ل "الجمهورية الصحراوية" خاصة في في اسيا كالهند التي سحبت اعترافها بها عام 2000 وكل من ايران وسوريا اللذين أغلقامكتبي جبهة البوليساريو عام 2001 وبأميركا اللاتينية خاصة كل من كولومبياونيكاراغوا وغواتيمالا و الباراغواي وكوستاريكا وعدة جزر بالمحيط الهادي، وهي الدول التي سحبت اعترافها ب" البوليساريو" .
وحرصا على صيانة وترسيخ الوحدة الترابية عمل المغرب آنذاك على التعاون الكامل مع الأمم المتحدة بكل اخلاص ونزاهة لطي هذا النزاع المفتعل، واستعدادها للتعاون مع المنتظم الدولي لإيجاد حل سياسي في نطاق و حدة التراب الوطني والسيادة الوطنية واللامركزية والجهوية خاصة، وذلك بعد الصعوبات الموضوعية التي حالت دون مواصلة تطبيق مخطط التسوية الأممي.
وحرصا على إعطاء نفس جديد لعلاقات المغرب التجارية والاقتصادية والمالية مع كافة الدول التي قام بزيارتها، جعل الدبلوماسية الاقتصادية قطبا أساسيا لعملها بإشراك الفاعلين الاقتصاديين الوطنيين في المبادرات الدبلوماسية وبصفة خاصة بواسطة منظماتهم المهنية. وكانت معالجة الدين العمومي وتحويله الى استثمار عمومي خاص أيضا من بين هواجس حكومة اليوسفي خاصة فيما يتعلق بالشركاء الغربيين التقليديين للمغرب من قبيل فرنسا واسبانيا وإيطاليا التي سمحت بتحويل جزئي للدين العمومي المغربي أو فتحت شريحة جديدة لهذا التحويل، وهو ما مكن من تقليص ديون المملكة من 19.1 مليار دولار في أواخر سنة 1997 إلى 14.2 مليار دولار آخر سنة 2001.

وبهدف تحسين صورة المغرب في العالم، كانت التحركات التي قام بها اليوسفي فرصة لإعطاء صورة للشركاء الأجانب عنالتطور السياسي للبلاد من خلال تجربة التناوب السياسي والخطوات المتخذة في ميدان ترسيخ المسلسل الديمقراطي وتوسيع فضاء الحريات، وتعزيز دولة القانون وإصلاحات تحديث المحيط القانوني والنظامي للمقاولة أو تحرير بعض المنشئات الاقتصادية.

وكانت تقوية العلاقات بين المغرب وبلدان المغرب العربي من بين أولويات السياسة الخارجية في عهد اليوسفي، من الايمان بأن اتحاد المغرب العربي يشكل اختيارا استراتيجيا لا رجعة فيه، وضرورة تاريخية وإنسانية وثقافية واقتصادية وسياسية فضلا عن بذل كل الجهود من أجل توطيد التعاون العربي والإسلامي.

وفي هذا الاطار، كان اليوسفي يشدد بخصوص الوضع بالشرق الأوسط على أن سياسة الحكومة الإسرائيلية، وعدم احترامها لاتفاقيات مدريد وأسلو وكذا تنكرها لمجموع التزاماتها ازاء الشعب الفلسطيني، هي السبب المباشر للمأزق الذي كان يوجد عليه مسلسل السلام وأن تحقيق السلام والاستقرار والتعاون الاقتصادي في المنطقة، رهين بنجاح مسلسل السلام عبر تطبيق قرارات مجلس الأمن على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام والحق الثابت للشعب الفلسطيني في تقرير المصير وانشاء دولة فلسطينية تكون القدس عاصمة لها.

وتميزت هذه المرحلة في اطار علاقات المغرب بالعالم العربي بالخصوص، بإحداث لجان مختلطة مع عدد من الحكومات العربية والتوقيع على اتفاقيات ثنائية للتبادل الحر مع عدد آخر من هذه البلدان والتي دخلت حيز التطبيق. كما انعقد اجتماع بأكادير في مايو 2001 ضم مجموعة من الدول العربية المتوسطية وهي المغرب ومصر وتونس والأردن التي ترتبط باتفاقيات شراكة مع الاتحاد الأوروبي واتفاقيات ثنائية للتبادل الحر، مما شكل خطوة مهمة للدفع بمسلسل التعاون الإقليمي في المنطقة المتوسطية.

ورغبة في توطيد علاقات الصداقة والتعاون التقليدية مع الولايات المتحدة ، كان اليوسفي قد أجرى محادثات مع مسؤولين أميركيين من أجل توطيد العلاقات بين البلدين منها اجتماعه مع الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون خلال مراسيم جنازة الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1999.

وفي هذا الإطار قامت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الاميركية آنذاك بزيارة للمغرب خصصت لبحث الوضع في الشرق الأوسط والمجهودات التي يبذلها الجانبين من أجل تحقيق السلام في هذه المنطقة.

*صحفي مغربي باحث في العلاقات الدولية