(آيا صوفيا - الحكمة المقدسة)،يعود تاريخ هذه الكاتدرائية الى عام 532 م . تُعد معلم حضاري بيزنطي مسيحي نفيس و إرث عالمي إنساني مدرج على قائمةمواقع (التراث العالمي) من قبل منظمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للأممالمتحدة (اليونسكو). بسقوط (القسطنطينية) بيد الغزاة العثمانيين عام 1543، تمتحويل كنيسة( آيا صوفيا) الى (مسجد ). بقيت مسجداً الى حين جاء (مصطفى كمال أتاتورك) ، الذي أنهى (الخلافة الإسلامية) ووضع أسس (النظام العلماني) للدولة التركية الجديدة، وحول كنيسة( آيا صوفياً ) عام 1934 الى (متحف) يستقبل الزوار من جميع الديانات والأمم، كرمز للعلمانية والتسامح الديني. في العاشر من تموز الجاري وقع الرئيس التركي (رجب طيب أردوغان)، مرسومايقضي بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، غير آبهٍ بردود الأفعال السلبية الدولية وبغضب الملايين من أحرار العالم المتحضر . بغض النظر عن الأهداف الداخلية (سياسية/انتخابية وغير سياسية) لأردوغان، انقلابه على أرث (الكمالية) يندرج في اطار مساعيه وحزبه الاسلامي الحاكم (العدالة والتنمية )، الى تقويض (النظام الديمقراطي العلماني) والعودة بتركيا الى (النظام الاسلامي)، كما كانتفي عهد (السلطنة العثمانية).
(آيا صوفيا )، ليست الكنيسة الأولى التي حُولت الى مسجد. العشرات بل آلاف الكنائس تم تحويلها الى مساجد ،منذ أن غزا المسلمون (المشرق المسيحي) واستوطنوا فيه وحكموه . لكن ، تحويل كنيسة الى مسجد، والبشرية في القرن الواحد والعشرين، يعني العودة بالمنطقة الى (العصور الوسطى)، بما تمثله من جهل وانحطاط وعنصرية ، بل العودة الى زمن (الحروب الدينية)، التي من المفترض أن تكون البشرية قد تجاوزتها الى عصر (التسامح الديني والتعايش بين مختلف الديانات والثقافات) . أردوغان، يهوى (نبش القبور) لابتزاز أهالي الضحايا وفتح جروح الماضي الأليم ،المثقل بمآسي المسيحيين المشرقيين . بأسلمة ( آيا صوفيا)، اردوغان اراد استحضار انتصار العثمانيين المسلمين باحتلالهم لـ(القسطنطينية) ،عاصمة (العالم المسيحي) أنذاك، وتقويض (الامبراطورية البيزنطية) المسيحية . بدلا من أن يعتذر أردوغان عما اقترفه أجداده العثمانيين من مذابح وإبادة جماعية بحق المسيحيين( الارمن والآشوريين واليونانيين) عام 1915،التي أقرت بوقوعها عشرات الدول والبرلمان والمنظمات والهيئات الدولية المعنية بحقوق الشعوب ، (اردوغان) تفاخر بما ارتكبه أجداه العثمانيين من (جرائم ضد الانسانية). بدافع الحقد والكراهية الدينية، وصف أحفاد الضحايا الناجين من الابادة بـ"الإرهابيين" والتهديد بالتخلص منهم . ففي مؤتمر صحافي يوم 4 ايار الماضي استخدم (اردوغان) أشد العبارات المهينة في اللغة التركية، "بقايا السيف"في إشارة واضحة للناجين من الابادة، قائلاً: " لن نسمح للإرهابيين من بقاي االسيف في بلدنا بمحاولة تنفيذ أعمالهم الإرهابية. لقد قلّ عددهم ولكنهم لايزالون موجودين"..
العالم المسيحي( شرقاً وغرباً) مازال يدفع ثمن (الخطأ التاريخي) القاتل، الذيارتكبته أوربا بتقاعسها بنجدة ومساعدة الملك البيزنطي(قسطنطين) لصد الغزو العثماني والدفاع عن عاصمة العالم المسيحي (القسطنطينية) ،عاصمة (الإمبراطورية البيزنطّية - الرومانية الشرقية). سُقوط مدينة القسطنطينية ، في يدالعثمانيين المسلمين ايار 1453م ، شكل بداية نهاية المسيحية في المشرق، الذي فيهظهرت ومنه انتشرت في مختلف قارات العالم. للأسف ، أوربا لم تستفاد من أخطائها التاريخية لجهة تحصين مجتمعاتها في وجه التغلغل (الاسلامي المتشدد) ولجهة حماية مسيحيي المشرق. دول حلف (الناتو) ، بعلاقتها مع تركيا، وريثة السلطنة العثمانية، بقيت اسيرة مصالحها الاقتصادية والسياسية، فيما تركيا تخفي (العداء والكراهية الدينية) تجاه أوربا والغرب عموماً . تركيا استغلت وجودها في حلف ( الناتو) لتعزيز قوتها ونفوذها والتمادي في تجاوزاتها وتدخلاتها في شؤون الدول الأخرى. عام 1974 تركيا غزت واحتلت شمال قبرص واعلنتها (جمهورية قبرصية تركية) وهددت اليونان إذا ما اعترض الغزو التركي، من غير أن تفعل دول (الناتو) أي شيء لردع العدوان التركي على قبرص وتحرير الجزيرة ولحماية حقوق ومصالح اليونان العضو في حلف (الناتو). مؤخراً تركيا بدأت بالتنقيب عن النفط والغاز في المياه الاقليمية القبرصية واليونانية رغم التحذيرات الأوربية. تركيا تُحرك وتحشد الجاليات المسلمة لابتزاز الحكومات الأوربية و لإثارة القلاقل في المجتمعات الأوربية، مع كل خلاف يحصل بين دول الاتحاد الأوربي والحكومة التركية.( اردوغان)، استغل (الحرب السورية) لاحتلال مناطق واسعة من سوريا على طول الشريط الحدودي ،ودفع بملايين المهاجرين المسلمين (السوريين وغير السوريين) الى أوربا ،بينهم آلاف الارهابيين، لفتح أبواب (الجحيم) على (الفردوس/ الاتحاد الأوربي)، بعد أن حُرمت تركيا من الانضمام اليه. ليبيا تعتبر (الحديقة الخلفية) لأروبا الوسطى، اردوغان أرسلجيشه الى ليبيا ،لدعم (حكومة السراج) الاسلامية، رغم التحذيرات والتهديدات الأوربية . لم يعد سراً ، بأن (تركيا) في عهد اردوغان، تعد من أكثر الدول الداعمة للجماعات الاسلامية المتطرفة والارهابية في المنطقة والعالم ،مثل (داعش والقاعدة والنصرة والإخوان المسلمين) . في ضوء هذه الحقائق السياسية والوقائع العسكرية ، ليس من المبالغة القول: أن تركيا باتت تشكل خطراً حقيقياً على الأمن والسلم العالميين . على أمريكا وحلفائها الغربيين لجم غطرسة الرئيس التركي( أردوغان) . مثلما فعل الأوربيون في الماضي على تقويض وتفكيك (الامبراطورية العثمانية) ،عليهم اليوم تفكيك (الدولة التركية) لتحرير الشعوب التي تستعمرها وإعادة القسطنطينية ومعها كنيسة (آيا صوفيا) الى أصحابها الحقيقيين.
باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات.
التعليقات