في الليلة الفاصلة بين السادس عشر والسابع عشر من هذا الشهر، قامت مجموعة من السلفيين المتطرفين، المشحونين بالأحقاد، بتخريب التمثال الرمزي لشاعر تونس الكبير أبي القاسم الشابي في مدينة عين دراهم في منطقة الشمال الغربي المتاخمة للحدود مع الجزائر. وكان الشابي الذي توفي عام1934 وهو الخامسة والعشرين من عمره قد جاء إلى هذه المدينة الجبلية ، وأيضا إلى جارتها مدينة طبرقة للتداوي من مرض القلب الذي أصابه وهو طفل. وبحكم عمل والده كقاض، تنقل الشابي المولود في واحة توزر بالجنوب الغربي، بين مناطق مختلفة لتصبح تونس بالنسبة له رمزا للجمال والحب. عنها كتب يقول:
أنا يا تونس الجميلة في لجّ
الهوى قد سبحتُ أيّ سباحهْ
شرْعَتي حبّك العميق وإني
قد تَذوّقْتُ مُرّه وقراحه
وواضح أن الذين ارتكبوا جريمة التخريب الشنيعة، لم يغفروا لشاعر "أغاني الحياة" حبه لتونس، ووفاءه لها هم الذين لا يكنون لها سوء الكراهية والعداء، ويتحينون كل فرصة لتشويهها، ومسخها، وتزرير تاريخها. وواضح أيضا أن هؤلاء هم أحفادُ من كَفّرُوه وشَنّعُوا به في الثلاثينات من القرن الماضي ، لكنه تحداهم، وكتب يقول :
أمشي بروح مُتَوَهّج
في ظُلْمَة الآلام والأدواء
النور في قلبي وبين جوانحي
فعلام أخشى السير في الظلماء
وفي قصيدة أخرى كتب يقول:
أرنُو إلى الشمس المُضيئة هازئا
بالسحب والأمطار والأنواء
لا أرْمُقُ الظلّ الكئيب ولا أرى
ما في فرار الهوّة السوداء
وأسير في دنيا المشاعر حالما
غَردا وتلك سعادة الشعراء
وفي مواقفه وقصائده، تصدى الشابي بأسلوبه الرفيع لأعداء الحرية، الكامنين في الظلمات، متربصين بكل من يبتغي العيش في النور، وحب الحياة، ساعين بكل الطرق لإخماد صوته، ونسف أفكاره:
لسنُ أبكي لعسْف ليل طويل
أو لربْع غدا العفاء مراحه
إنما عَبْرَتي لخَطْب ثقيل قد
عَزَانا ولم نجدْ من أزاحه
كلما قام في البلاد خطيب
مُوقظ شعبه يريد صلاحه
ألبسوا روحَه قميصَ اضطهاد
فاتك شائك يردّ جَمَاحه
أخمدوا صوته الالهيّ بالعسْف
وأماتوا صدْحَه ونواحَه
وليست هذه هي المرة الأولى التي يتعمد "خفافيش الظلام" التعدي على رموز النخبة التونسية المستنيرة. فعلى مدى العشر سنوات الماضية، دأبوا على ارتكاب مثل هذه الجرائم من دون أن يُحاسبوا أو يُعاقبوا لأن هناك في أعلى هرم السلطة من يُحرضهم على ذلك، ويُبارك أفعالهم الدنيئة، ويحميهم من المحاسبة والعقاب. وقبل سنوات، خربوا تمثال المصلح الكبير الطاهر الحداد صاحب كتاب: "امرأتنا في الشريعة والمجتمع ّ الذي انتصر لحرية المرأة في الثلاثينات من القرن الماضي، ودافع عن حقوقها المشروعة، منتقدا المتزمتين، أصحاب الفتاوي الصفراء، المعادين للفكر الحر، ولقيم الحرية. بسببهم أصبح المجتمع "مشلولا مريضا". ورادا على هؤلاء بعد أن كفروه، وهددوه بالسحل والقتل، كتب الطاهر الحداد يقول:" التفكير بدْء الحياة، ولكننا نَضَعُ في وجهه سلاح التفكير لنثير عليه الشعب. فمن أين تبدأ الحياة التي نطلبها للشعبّ. ثم يضيف قائلا:" اليوم الذي تنطلق فيه عقولنا حرّة حرة من سجن التقاليد فتحكم على ماضينا وعلى حاصرنا لفائدة مستقبلنا، هو اليوم الذي يولد فيه العمل المثمر لحياتنا".
وإلى حد هذه الساعة، لا تزال حملات التشويه والتبخيس والترذيل التي تستهدف الزعيم بورقيبة، متواصلة. ومن أعلى المنابر الرسمية، ومن تحت قبة البرلمان، تتعالى أصوات "خفافيش الظلام" عالية لتنعته ب"العميل"، و"الطاغية" نازعة عنه خصاله الوطنية، ونافية عنه الانجازات الكبيرة التي تحققت في فترة حكمه، والتي أخرجت تونس من ظلمات الجهل والتخلف ...
وكل هذه الجرائم البشعة، وهذه الأفعال الدنيئة التي تستهدف النخبة السياسية والثقافية مرتبطة بمخطط رهيب يهدف إلى تدمير منجزات أزيد من قرن ونصف من التحديث والتنوير، لإغراق تونس في الجهل والتزمت والفتن الدينية والعقائدية تمهيدا لحكم يتناسب وينسجم مع نمط الاستبداد الشرقي القديم...