اتسمت بنية العملية السياسية العراقية التي فرضتها امريكا منذ العام 2003، بأنها عملية تعتمد على مبدأ التقاسم الطائفي والإثني، لذلك برزت مجموعة هائلة من الأزمات ومظاهر الخلل التي عصفت بالحياة السياسية العراقية منذ ذلك الوقت، بدءاً بالدستور وطبيعة النظام السياسي الذي أفرز مسار المحاصصة، والتنافس على استحواذ السلطة وإقصاء الآخر، وغياب المعارضة الحزبية الحقيقية. ولم تستطع مختلف القوى السياسية الاتفاق على إطار مفاهيمي يضمن عملية استقرار النظام السياسي في البلد. ولذلك تعاقبت على العراق حكومات طائفية أنتجت دولة هشة ضعيفة غير مستقرة تعاني من أزمات معقدة ومتكررة.
المشهد السياسي العراقي الحالي مليء بالأزمات، ويبدو أن جميع النخب السياسية تعيش على هذه الأزمات، حيث كانت سياسة الإدارة بالأزمات هي السائدة في البلاد منذ إسقاط النظام السابق، وكانت الحلول في أكثر الاحيان تأتي من خلق أزمة جديدة وأكبر لتحل محل الأزمة القائمة، حتى تُنسى الأزمة الأولى لتتجه الأنظار نحو الأزمة الجديدة. القوى السياسية والدينية في المجتمع العراقي المستفيدة من الوضع الراهن سياسيا واقتصاديا، أصبح لها جذور عميقة، وهي قادرة، في غياب احتكار الدولة للقوة العسكرية، على إعاقة أو تقويض أو حتى تفجير أي محاولة إصلاحية جذرية يمكن أن تهدد ولو نظريا هيمنتها على النظام السياسي.
من يتأمل الواقع جيدا قد يصل إلى الحقيقة المتمثلة بأن من يتحمّل الجزء الأكبر من المسؤولية عن الأزمات المتتالية في العراق هم الطبقة الحاكمة (من المكونات الرئيسية للشعب العراقي) المرتبطون بدول خارجية إقليمية ودولية لا تريد الخير والاستقرار للعراق. فالأحزاب والكتل السياسية التي هيمنت وتفردت بالسلطة وإدارة الدولة، منذ العام 2003، لم تؤسس لنظام حكم وإدارة قائم على المؤسسات وليس على الأشخاص، فغلبة المصالح الفئوية والحزبية الضيّقة على المصالح الوطنية عززت الانقسام المجتمعي وأدت إلى انعدام الثقة بين مكونات الشعب العراقي، وهذا انعكس على طبيعة العلاقة بين شركاء العملية السياسية الذين اختلفوا على كثير من جوانب العملية السياسية واتفقوا فقط على توزيع مغانم السلطة فيما بينهم، في وقت يعيش غالبية الشعب في ظروف معيشية سيئة.
لقد جاءت الاحتجاجات التي بدأت في الأول من شهر أكتوبر من العام الماضي، لتبرز قوة الجيل الشبابي الجديد من العراقيين (الجيل الذي عاش وولد بعد عام 2003) ومقدار نقمته واحباطه مما يجري، ورغبته بالتغيير، وهو مؤشر على بروز وعي جديد بين العراقيين بظاهرة السلطة والمطالبة بالحقوق، والقدرة على الحكم بقوة وقسوة على القادة السياسيين. وفي ظل هذا الوعي السياسي المتنامي في أوساط الشباب، لم يعد مقبولا ان تعيش إثنيات العراق المختلفة في تخندقاتها القديمة واوضاعها الحالية، وعليها جميعا ان تحسم أمرها لبناء العراق كدولة واحدة، والاجتماع على أسس جديدة مرتكزها رابطة المواطنة وسيادة القانون والديمقراطية والامن والتنمية الشاملة.
ما يجري حاليا في العراق يتطلب معالجته بحكمة تتمثل في، أولا: ابعاد ومحاسبة كل الأطراف الفاسدة والفاشلة التي اجرمت بحق العراقيين لأكثر من 16 عاما. ثانيا: اختيار الأشخاص الأكفاء حسب ما ورد في شروط ومطالب المتظاهرين والمحتجين. ثالثا: العمل على خلق عراق ديمقراطي مستقر وموحد وقوي، يحفظ حقوق جميع مواطنيه من شماله الى جنوبه، ويسخر ثرواته الهائلة لخدمتهم جميعا. رابعا: حل جميع الميليشيات المسلحة، وسحب السلاح غير المرخص، وفرض هيبة الدولة على الجميع. خامسا: التفكير بجدية في إلغاء المحاصصة السياسية بالكامل وما يترتب عليها من تقاسم السلطات الثلاث الرئيسية (رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب). الفشل في تحقيق ذلك سيؤدي – عاجلا أم اجلا - الى كارثة تدمر الجميع.
الحقيقة المؤكدة هي ان العراقيين هم وحدهم وبكل مكوناتهم الأصلية قادرين على معالجة وإصلاح الأمور في بلدهم إذا حسنت النيات وتطهرت القلوب من الحقد والكراهية. العقل العراقي يبقى قادرا على إيجاد الحلول الناجحة لمشاكل بلاده إذا تخلص من التبعية للخارج الدولي والإقليمي. ان بناء دولة حديثة ليس مجرد حلم أو أمنية عابرة، بل هو نتاج جهد علمي دؤوب يستند الى رؤى استراتيجية واضحة وصحيحة وفاعلة، يسهر على تنفيذها قادة حكماء ذو مهارات عالية في الحكم والإدارة، يستثمرون خلالها جميع الفرص المتاحة لتعبئة وتوحيد مواطنيهم خلفهم من اجل تحقيق هذا الهدف الكبير. وعليه، سيكون تقرير مستقبل العراق هو المعيار لنجاح قادته الوطنيين والشرفاء في استيعاب الدروس القاسية التي عانى ولا يزال يعاني منها بلدهم بسبب سوء حظه مع قادته الفاسدين الذين يحكمونه منذ العام 2003.
آخر الكلام: الانتخابات النيابية المقرر إجراؤها في العام القادم تحظى بأهمية بالغة، ويجب ان توفر لها الشروط الضرورية التي تضفي على نتائجها درجة عالية من المصداقية، ومن بينها ان يتم الإشراف والرقابة عليها بصورة جادة بالتنسيق مع الدائرة المختصة بذلك في بعثة الأمم المتحدة. هذا البيان صادر من مكتب "السيد علي السيستاني" حفظه الله، ويجب الالتزام به والإصرار عليه. هناك جهات ودول تتنقد هذا البيان وتحرض عليه لحاجة في نفس يعقوب. (إن اللبيب بالإشارة يفهم).
التعليقات