كم تتغير مفاهيمنا في الحياة حينما نكبر في أعمارنا وقيمنا الإنسانية وكم من القناعات التي كانت ثابتة في أعماقنا تبدأ في الزوال وتحلّ محلها رؤى أكثر إنسانية ونضجا في أخلاقنا.
في أذيال العمر الأخيرة وأنا أتجاوز السبعين؛ حينما أجول في السوق ؛ لم أعد أساوم هذا الكاسب بائع الخضار والفاكهة وأعطيه ما يريد بكل طيبة قلب ، وأيقنت ان بعض المال الصغير التي كنت أُنقصها من البائع قبلاً أثناء المساومة ، أصبحت الان لن تزيدني غنىً وأرى الغنى الحقيقي في رضاء من أتعامل معه بكل لطفٍ وسخاء.

بعد ان انتهي من التسوّق أوقف سائق التاكسي للعودة الى البيت مع أغراضي دون ان أتعامل معه وأعطيه ما يريد ولا انتظر الباقي من أجزاء الألف الدينار وأحسب ان المبالغ الإضافية الصغيرة قد ترسم ابتسامة في وجهه ووجه أطفاله الصغار حينما يشترون كراسا بسيطا وأقلام الرصاص وممحاة مع اني لست موسّرا وقد يفوقني مالاً.

أما على الصعيد الاجتماعي ؛ عزفت عن انتقاد الآخرين حينما أرى فيهم شيئا من الخطأ في التصرّف والسلوك وأنشد السلام والصحبة الحسنة مع الجميع ؛ فالناس تختلف مشاربهم وقناعاتهم ولا توجد شخوص مثالية ، اما الكمال فهو وهم نتمناه في نفوسنا ومحال ان نلقاه على ارض الواقع.

فمن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تقلّ معايبهْ
والحق اني صرت أمارس المجاملات مع الجميع بشكل مفرط وأُزيد من الأصدقاء والمعارف وأوسع في معاشرة الغير ممن أنتخبهم كأصدقاء وقريبين لي في الفكر والرؤى بعد ان شعرت ان هذا السلوك الاجتماعي قد أصقل مزاجي وشذّب نفسي مما كنت أعاني منه قبلا من انزعاج من بعض التصرفات غير اللائقة وتوجيه النقد اللاذع أحيانا للأطراف التي تسيء التعامل.

أما خروجي وطلعتي في مشاويري فلم أعد أعبأ بهندامي وأناقتي السالفة ولا أقلق حينما يتجعد قميصي أو يظهر بلا كيٍّ ولا أبالي أو أصاب بالهلع لو رأيت بقعة أو لوثة غريبة في ملابسي ؛ وتهمني جدا الان قوة شخصيتي الكامنة في دواخلي دون العناية الفائقة بالمظهر الخارجي قدر اهتمامي مع من سأعاشر فأنتقي الأقرب لي مزاجا وسعة أفق وأبعد عمّن لا يروقني ولا يقدّر شخصي ؛ فقد بدأت اعرف نفسي تماما وانسحب بهدوء ممن يستفزني دون ان أجادله فيولِّي وجهه معرضا عني ، فما حاجتي لأشخاص ينغّصون علَّيّ البقية الباقية من عمري ويسلبون مني هدأتي؟

ومثلما نحصّن مناعتنا الصحية جسدياً في زمن وباء الكورونا الكوفيد التاسع عشر وما سيليه الأكثر قسوة وعدوى ؛ علينا ايضا ان نحمي ونحصّن أنفسنا من الأوبئة الاجتماعية السائدة فينا والتي طفحت وتزايدت بشكل يدعو للقلق والحيطة من الوقوع في مزالقها والانجراف نحوها من خلال اختياري الطريق الأسلم للوصول الى هامش مقنع من راحة البال لأستمتع بما بقي من العمر في شاطئ السعادة قدر الإمكان ، فالشيخوخة ليست وبالاً وشقاءً – كما يتوهم البعض – إنما هي مرحلة عمرية لها حسناتها وسوءاتها ولابدّ من التعايش معها في الحالتين معاً.

ليست أيام الفتوة والشباب التي غادرتنا بلا رجعة كلها وردية وممتعة ونشطة ففيها من المنغصات والعثرات الجسام والكبوات الكثير وهذا هو حال المراحل العمرية التي يمرّ بها الإنسان طيلة حياته .
فالهرم والكبر شطرٌ من حياةٍ يمكننا ان نجعلها جميلة لو أحسنّا مراعاتها واهتممنا بأنفسنا والمحيطين بنا ممن نحبهم ونقترب منهم ودادا واشتياقا.

[email protected]