يستمر، بلا توقف، في مراكز البحوث والجامعات الغربية تدفق سيل الدراسات والابحاث التي تحاول سبر اغوار عالمنا الرقمي وما يتعلق به من ادوات وما يرتبط به من اجهزة افرزتها الثورة التكنولوجية الكبرى التي انفجر سعارها في السنوات العشرين الاخيرة التي باتت تشكل، بدون أدني شك، احدى اهم معالم التحولات الكبرى التي ارتسمت في حياة الانسان منذ مئات السنين.

وبالرغم من ان خريطة السلوك البشري ومساراته وغاياته وحركته الاجتماعية ترزح تحت مطرقة التجارب ومشرط الابحاث منذ عقود عديدة ومن جانب حقول معرفية متعددة، الا انها خضعت في السنوات الاخيرة للتطورات التقنية الكبرى التي خلقت عالما افتراضيا جديدا وابتكرت فضاءا عالميا خلاقا اضطر الانسان للتعامل معه على نحو جديد وفي مستوى من العلاقة لايخلو من الحميمية!

فريق يتألف من 11 عالم مختص في علم الأنثروبولوجيا من كلية لندن الجامعية أمضى 16 شهر في 10 دول مختلفة افريقية واسيوية واوربية ومن امريكيا الجنوبية في محاولة منهم لرصد ومراقبة وتحليل كيفية استخدام الهواتف الذكية وكشف علاقة الانسان بهذا الجهاز وفقا لمنهج اثنوغرافي استدعى من الباحثين التواجد ميدانيا في هذه الدول ودراسة الظاهرة بمنهج علمي لعدة أشهر.

الدراسة توصلت الى نتيجة مفادها ان الهاتف الذكي هو بيت متنقل ومحمول نسكن فيه وفضاء واسع نعيش في داخل سقفه! وان الطرق المتعددة لتعامل الانسان مع الهاتف تظهر بوضوح وجود علاقة استثنائية بينهما تدعونا بكل وضوح للقول بان هذا الجهاز امسى جزءا لايتجزأ من حياة الانسان ،وان شعور الناس تجاه هواتفهم المحمولة مشابه لشعورهم تجاه منازلهم !!!، ولذا فالناس في الوقت الحالي اصبحوا "حلزونا بشريا يحملون منازلهم فى جيوبهم".

وعلى نقيض الابحاث الراهنة ... ركزت الدراسة حول الاشخاص الكبار الناضجين ولم تتعرض للمراهقين او الشباب ممن يستغرقون في الهاتف ويستخدمونه لحد الادمان ، وقد نبهت الدراسة الى ضرورة الاخذ بالاعتبار ببعض الفروق الثقافية والاجتماعية في التعامل مع الهاتف، فمثلا تجد في الصين واليابان التركيز موجه على الاتصال المرئي، بينما تنتقل الغاية الى نقل الاموال من خلال الهاتف في الكاميرون واوغندا، في حين ان مستخدمي الهاتف في تشيلي وايرلندا يهتمون في الغالب بالوصول للمعلومات الصحية، وعن طريق هذه التفصيلات يمكننا الاحاطة الشاملة بماهية الهاتف الذكي ومعرفة اهميته وفهم كل ما يتعلق به.

ان الهاتف الذكي، في العصر الحالي وطبقا لمقتضيات ما يجري من تعامل معه، لم يعد مجرد جهاز للاتصال او للألعاب ! بل اصبح " مكانا يعيش فيه الانسان " كما يشير الى ذلك البروفيسور دانيال ميلر الذي ترأس فريق الدراسة ، وهي عبارة تفتح امام الباحث مساحات كبيرة للحديث عن طبيعة علاقة الانسان ببيته الجديد وعلى نحو اشمل " وطنه الافتراضي" الذي يعيش فيه ومن خلاله ويتعلق به بكامل مشاعره وجميع احاسيسه ومجمل تصرفاته بل ان كل تركيزه الفكري يتجه نحوه خلال دقائق يومه التي تمر بسرعة وهو يتعامل معه بطريقة ادت الى احداث تغيير جوهري بطبيعة علاقة مالك الهاتف الانسانية مع الاخر.

العلاقات الإنسانية من جهة وعلاقة الانسان بالمكان من جهة أخرى شهدت تغييرات جوهرية مست مسار العلاقة بينهم وطبيعتها وتفاصيلها واتخذت مظاهر مختلفة وتجسدت في اشكال متنوعة في ظل عصر سيطرة الهاتف على الانسان، ونتج عنها ظهور مصطلح " موت القرب " الذي يمثل نتيجة طبيعية لمفهوم " موت المسافة " اذ ان العلاقة التقليدية الواقعية وجها لوجه والتي كانت سائدة منذ نشوء العلاقات الاجتماعية قد استبدلت بعلاقة جديدة فرضها وجود الهاتف بيد الانسان، حيث على الرغم من وجود الانسان في وسط جماعة من الناحية الواقعية الا انه في نفس اللحظة بعيد عنهم بل ربما تجده يعيش، وهو معهم، عزلة اجتماعية وعاطفية وبشكل قد يؤدي الى الاحباط والخيبة والاساءة للجماعة التي يجلس معها بسبب تجاهله لهم على نحو وقح .

السبب الاساسي في تعامل الانسان الحميمي مع الهاتف وعلاقتهما الوطيدة التي تزداد وتيرتها في كل يوم هو تطبيقات التراسل الفوري مثل الواتساب وغيره من التطبيقات مثل لاين وهو التطبيق الاكثر استخداما في اليابان او وي شات في الصين، والتي يقضي فيها المستخدم ساعات طويلة كل اسبوع، فهذه التطبيقات هي “ قلب الهاتف “ كما تصفها الدراسة، وهي بالنسبة للعديد من المستخدمين في مختلف بلدان العالم اهم شي يمنحهم اياه الهاتف من بين جميع التطبيقات الأخرى.

باحث دكتوراه فلسفة