اعتذر سعد الحريري عن تشكيل الحكومة اللبنانية إثر حراك الدبلوماسي مكوكيّ وبعد انقضاء اكثر من 9 اشهر على تكليفه في ظل انهيار تام لكلّ مؤسسات الدولة، ومع اقتراب انقضاء عام على كارثة انفجار مرفأ بيروت ، ليشهد الدولار الاميركي ارتفاعًا جنونيًّا وانهيارًا حادًّا لسعر صرف الليرة اللبنانية ، في ظلّ حراكٍ شعبيٍّ متزايد في الشارع ، و وسط تخوفات حقيقية من انفلات أمنيّ لم تشهده البلاد من قبل.

لبنان لا يزال عالقًا في عنق الزجاجة منذ أكثر من عام ، وعلى الرغم من يأس غالبية الشعب اللبناني من الطبقة السياسية برمتها ، فإنّ بعض الساسة يتوقعون الخروج بسيناريو ترقيعي يلفلف الأزمة ويُعوّم الطبقة السياسية من جديد ، ويطيل في أمد الصبر الذي نفذ عند المواطنين الذين لم يعدوا يروا أملا في خلاصهم وخلاص بلدهم الذي انهار تمامًا تحت وطأة الفساد، وكان آخرها رفض المعنيين رفع الحصانة عن النواب و المسؤولين الذين طالبهم القاضي طارق بيطار بالمثول امام التحقيق العدلي.

بالتأكيد فإنّ فشل تشكيل الحكومة كان متوقعًا في ظلّ تعنت الفرقاء بعد اصرار رئيس الجمهورية ميشال عون على حصة 8 وزراء من مجموع 24 وزير وذلك لضمان الثلث المعطل، كما أن تكتله البرلماني الممثل بالتيار الوطني الحر لم يوافق على منح الثقة للحكومة حال تشكلها، فيما اعتبرت مصادر مطلعة في القصر الجمهوري أن الحريري قدم تشكيلة تتضمن أسماءً غير مقبولة لدى بعض القوى السياسية ، كما أنه تجاهل مطلب عون بتسمية الوزراء المسيحيين، وتحديدًا اسم وزيري الداخلية والعدل.

على أية حال فإن كلّ تلك التفاصيل توحي بما لا يدع مجالاً للشك في أنّ المسؤولين اللبنانيين يعيشون حالة انفصام تام عن الواقع ، فقد طفح كيل الشعب اللبناني حيث بدا له جليًّا عمق الاستهتار وغياب المسؤولية عن قادة البلد وزعمائه، الذين سارعوا إلى تراشق تهم التعطيل و التبرؤ من مسؤوليتاهم وغضهم الطرف عن التحقيق في جريمة المرفأ على مرأى ومسمع الشعب المكلوم ، الذي تحوّل الى رهينة بيد ميليشيا حزب الله حليف رئيس الجمهورية التي تستعمله كورقة ضغط في المحافل الدولية لفك الحصار الاقتصادي من جهة وللحصول على مساعدات من جهة أخرى.

وفيما لا زالت لهجة المواقف الدولية حاسمة لجهة مطالبة السلطات اللبنانية بالاسراع في إصلاحات بنيوية وهيكلية توفّر الحد الادنى، مؤكدين على أنها البوابة الاجبارية ليستعيد لبنان صدقيته في العالم والثقة المفقودة داخليّاً وخارجيّاً.

أما الحراك المدني فإنه لا يخفي تخوّفه تجاه تشكيل "حكومة توافقية " تؤدي عودة أقطاب "الزعامات السياسية الطائفية " نفسها كما يخشى من تعطيل الانتخابات النيابية المقبلة .

وأمام هذا الواقع لا بد من التحذير من الوقوع في فخ إعادة انتاج السلطة الحالية القائمة على معادلة (ابقاء السلاح وابقاء الزعامات الطائفية ). وللخروج من دوامة اعادة انتاج الفساد لا بد من حل جذري يؤسس لدولة محايدة في سياستها الخارجية، ( وقد اشرت لذلك في اكثر من مناسبة ) ، وتقوم على العدالة الاجتماعية الشاملة والشفافية في سياستها الداخلية ، إذ لا خلاص حقيقي للبنان إلا عبر نقاط محورية جذرية ثلاث تنفذ تحت إشرافٍ أممي و وصاية دولية وهي :

أولا : إعلان لبنان دولة فاشلة: الوضع اللبناني أكبر من كارثيّ على كافة الصعد الانسانية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويؤكّد بشكل لا لبْس فيه على أن الدولة اللبنانية فاشلة فاسدة بكل المقاييس، وأنّه لا ثقة في كافّة أجهزتها بما فيها الأمنية والقضائية ، الأمر الذي يتطلب حلول استثنائية وإنقاذ فوري حاسم .

ثانيًا : البدء بتحقيق دولي شامل لا يطال كارثة انفجار المرفأ وحسب، بل يشمل كل ملفات الفساد والسرقات ، ولا يستثني من الطبقة السياسية أحدًا ممن توالوا على حكم لبنان طيلة عقود ثلاث، كما لا يستثني الأجهزة القضائية والأمنية والمالية وغيرها وذلك لضمان الشفافية وإحقاق الحق وإعادة كافة الأموال المنهوبة .

ثالثًا : تشكيل حكومة إنقاذ محليّة برعاية أممية وحلّ كافة الأحزاب الطائفية والعقائدية والسياسية ونزع سلاحها .

هذه النقاط الثلاث بطبيعة الحال ستكون مرفوضة جملة وتفصيلا عند الاقطاب السياسيين المعهودين الذين يسعون الى المراوغة مجددا بطرح حكومة "وطنية توافقية" تحت مسمى حكومة "وحدة وطنية" ، وهذا الطرح ليس إلا إعادة انتاج للطبقة الفاسدة نفسها التي كانت ولا زالت تسرق اللبنانيين وتعيث في الأرض فسادًا وإهمالا، و تعني اعادة تدوير معادلة (تغاضى عن السلاح لأتغاضى عن سرقاتك)، إن تأليف حكومة بمشاركة هؤلاء الفاسدين وبمشاركة "حزب الله" بسلاحه المنفلت والغير الشرعي ، يعني التغاضي عن الدور الميليشوي الذي يمارسه الحزب جهارًا نهارًا في ترهيب الداخل اللبناني علاوة على دوره الارهابي المسلح المعلن والمكشوف في كافة دول المنطقة؛ كما يعني التغاضي عن الأموال المنهوبة من قبل الأطراف الأخرى. حكومة كتلك ستعيد انتاج مبدأ المحاصصة وتقاسم الثروات.

إن حكومة الانقاذ المطلوبة لا تكون انقاذية إلا بنسف المنظومة السياسية الفاسدة برمتها، بما فيها بعض القوى "المعارضة " التي لعبت دورًا سيئًا عبر مشاركتها في حكومات متعاقبة كان المتحكم في قرارها الفعلي حزب الله. فالمطلوب حكومة عمل جاد من اختصاصيين من خارج التيارات السياسية كلّها تعمل ما هو مطلوب من إصلاحات توفّر الحد الأدنى من مطالب صندوق النقد الدولي ليستعيد لبنان صدقيته ومصداقيته في العالم وللاستفادة من قروض وهِبات الجهات والحكومات المانحة. ويعيد الثقة المفقودة داخليّاً بتوفير الخدمات الأساسية .

إن تشكيل حكومة إنقاذ ينبغي ان تكون مهمتها الاولى حلّ الاحزاب وسحب السلاح من أيدي الميلشيات واعادة الاموال المنهوبة والذهاب الى انتخابات نيابية ، حكومة كتلك من المتوقع ان ترفضها القوى السياسية جلّها، وعلى رأسهم حزب الله الذي لا ولن يرضى بتسليم سلاحه ولا بوقف تدخلاته العسكرية في دول الجوار، ولن يتوقف عن غسيل الاموال وتجارة المخدرات لتأمين موارده المالية ، كما لن يكفّ عن السيطرة الأمنية على المنافذ الحدودية البرية والبحرية والجوية ليضمن لنفسه حرية الحركة الغير مشروعة له، لذلك سيعمل على إجهاض ولادة أي حكومة لا تضمن له ذلك وسيقاتل بشراسة و وحشية من اجل الحفاظ على دوره ا، وبالتالي فلن يتورع عن إشعال حرب أهلية داخلية لا تبقي ولا تذر و التي سيعتبرها معركة وجودية والنصر فيها "إلهيا"!

وعليه فإن حزب الله يجبر اللبنانين ويخيرهم بين "حكومة شكليّة" على مزاجه مع بعض التنميقات الشكلية أو الذهاب الى حرب داخليّة.

أخيرا وتحسبًّا للسيناريو الكارثي الاسوأ فإن على المجتمع المدني المطالبة اليوم وأكثر من أي يوم مضى، بوصاية أمميّة على لبنان تعمل على انقاذ ما تبقى من اللبنانيين المنكوبين عبر تشكيل حكومة انقاذ من مختصيين، وفرض وصاية عسكرية اممية من قوات اليونيفل تعمل على ضبط الحدود اللبنانية، وترغم حزب الله على الانصياع لتفكيك منظومته العسكرية التي تستعمل المناطق المأهولة مخازن عملاقة لتخزين الأسلحة مما ينذر بكوارث مهولة محدقة .