إن قصة قصيدة "يا سيدي أسعِف فمي" التي قالها نهر العراق الثالث محمد مهدي الجواهري في الملك الراحل الحسين بن طلال، هي في دلالاتها أشبه بالحَجر الذي يلقم كل من يرى بأن الإنقلابي عبد الكريم قاسم هو الزعيم الأوحد والأفضل مِمّن سبقوه، وأن إنقلابه الدموي الهمجي هو ثورة خالدة، وأن جمهوريته العسكرتارية الدكتاتورية الشمولية أفضل من الملكية الدستورية الليبرالية التي سبقتها! فهذه القصيدة رغم أنها في ظاهرها قصيدة شعرية ساحرة الوَقع والكلمات، إلا أنها تحمل في طياتها الكثير من المعاني العميقة والإشارات الدقيقة، وتمثل بمراحلها الزمنية المختلفة، وبالتغيرات التي طرأت عليها خلالها، شهادة للشاعر تحسم الكثير من اللغط الدائر حول حدث تأريخي خطير، مَثّل حداً فاصلاً بين فترتين زمنيتين من تأريخ العراق الحديث، وهو إنقلاب 14 تموز.

فبعض أبيات هذه القصيدة اللّامية، التي تكاد أن تطال المعلقات برُقي بنائها وأناقة لغتها وجمال روحها وسحر صورها الشِعرية، قالها الجواهري في هَواشِم العراق، وتحديداً الأمير عبد الإله والملك فيصل الثاني قبل 1958. ثم تَبَرّأ منها وكتب قصيدته النونية، المتواضعة اللغة والخاوية الروح، التي حيّا فيها إنقلاب 14 تموز والنظام الجمهوري ومَدح منفذيه وذَم الملك والأمير بعد 1958. وفي عام 1992، وتحديداً في الثاني من ديسمبر، عاد الى مُعلقته اللامية الهاشمية الملكية فيما يُشبِه الصَحوة والندم والبراءة من نونيته الهزيلة التي لم يَعُد أو يُشِر اليها يوماً، وأضاف اليها أبيات من نفس الوزن والقافية وألقاها بحضور الملك حسين المهيب وفي شخصه الجليل بمبنى البرلمان الأردني القديم في جبل عمان ليعيد إليها مكانتها التي تستحقها، وليُعيد لمَن قيلت فيهم إعتبارهم الذي يليق بهم، ولتدخل التأريخ إرثاً مشترَكاً للهاشميين على مدى العصور، تملأ صفحات الكتب ومواقع الإنترنت، وتترَدّد على ألسنة الملايين شعراً أو غنائاً بعد أن لحنها الموسيقار المصري جمال سلامة وغنتها المطربة التونسية صوفيا صادق، وقُدِّمَت مغناة على مسرح قصر الثقافة في حفل حي على الهواء مباشرة بحضور الملك حسين كهدية الى جلالته بمناسبة عيد الإستقلال في 25 أيار عام 1993. فيما طوى النسيان نونية إنقلاب 14 تموز التي لم يَعُد يذكرها أحد، كما سيَطوي ذكراه قريباً الى الأبد، أو قد لا يبقي له ولمنفذه قاسم ولشركاءه سوى اللعن على جريمتهم النكراء التي ستبقى وصمة عار في جبينهم وجبين من لا زال يطبل لهم ويؤيدهم.

لقد عاصَر الجواهري حُكّام ما قبل 14 تموز وما بعده، وكان قريباً من أغلبهم، بدئاً من الملك المؤسس فيصل الأول الذي إحتضنه وعيّنه في ديوانه، وصولاً الى صدام، مروراً بالملك فيصل الثاني والأمير عبد الإله وعبد الكريم قاسم الذين تتمَحور حولهم أحداث وتداعيات 14 تموز، وكانت له مع بعضهم صولات وجولات وتقلبات بين مديح وهجاء، لكنه حينما يَقِف وهو في التسعين من عمره لكي يلقي قصيدته اللّامية أمام الملك حسين بكل ثقة، فهذا يعني بأن الأقلام قد رُفِعَت وأن الصُحف قد جَفّت. ربما كانت للراحل آرائه المتقلبة قبل هذه القصيدة، لكنه بقي بعدها ثابتاً على موقفه ورأيه بخصوص أفضلية النظام الملكي على الجمهوري، وبأن إسقاطه كان خسارة لا تعوض للعراق والعراقيين، والدليل هو أنه في آخر مقابلاته المتلفزة المُسَجّلة صَرّح بوضوح بأنه يائـس من مستقبل العراق، بعد أن عَرّج طبعاً على موضوع الملكية، وأشاد بالملك الراحل فيصل الأول، ووصفه بأنه عجيب وأكبر من حجم العراق بشخصيته ومواهبه ومكانته.

يا سيّدي أَسْعِفْ فَمِي لِيَقُـول.. في عيدِ مولدِكَ الجميلِ جميلا

أَسْعِفْ فَمِي يُطْلِعْكَ حُـرّاً ناطِقـاً.. عَسَلاً، وليسَ مُدَاهِنَاً مَعْسُولا

يا أيّـها المَلِـكُ الأَجَلُّ مكانـةً.. بين الملوكِ، ويا أَعَزُّ قَبِيلا

يا ابنَ الهواشِمِ من قُرَيشٍ أَسْلَفُـوا.. جِيلاً بِمَدْرَجَةِ الفَخَارِ، فَجِيلا

نَسَلُوكَ فَحْلاً عَنْ فُحُـولٍ قَدَّمـوا.. أَبَدَاً شَهِيدَ كَرَامَةٍ وقَتِيلا

للهِ دَرُّكَ من مَهِيـبٍ وَادِعٍ.. نَسْرٍ يُطَارِحُهُ الحَمَامُ هَدِيلا

يُدْنِي البعيدَ إلى القريبِ سَمَاحَـةً.. ويُؤلِّفُ الميئوسَ والمأمُولا

يا مُلْهَمَاً جَابَ الحيـاةَ مُسَائِـلاً عَنْها.. وعَمَّا أَلْهَمَتْ مَسْؤُولا

يُهْدِيهِ ضَوْءُ العبقـريِّ كأنَّــهُ.. يَسْتَلُّ منها سِرَّهَا المجهـولا
يَرْقَى الجبالَ مَصَاعِبَاً تَرْقَـى بـهِ.. ويَعَافُ للمُتَحَدِّرينَ سُهولا

ويُقَلِّبُ الدُّنيا الغَـرُورَ فلا يَرَى.. فيها الذي يُجْدِي الغُرُورَ فَتِيلا

يا مُبْرِئَ العِلَلَ الجِسَـامَ بطِبّـهِ.. تَأْبَى المروءةُ أنْ تَكُونَ عَلِيلا

أنا في صَمِيمِ الضَّارِعيـنَ لربِّـهِمْ.. ألاّ يُرِيكَ كَرِيهةً، وجَفِيلا

والضَّارِعَاتُ مَعِي ، مَصَائِرُ أُمَّـةٍ.. ألاّ يَعُودَ بها العَزِيزُ ذَلِيلا

فلقد أَنَرْتَ طريقَهَا وضَرَبْتَـهُ.. مَثَلاً شَرُودَاً يُرْشِدُ الضلِّيلا

وأَشَعْتَ فيها الرأيَ لا مُتَهَيِّبَـاً.. حَرَجَاً ، ولا مُتَرَجِّيَاً تَهْلِيلا
يا سَيِّدي ومِنَ الضَّمِيـرِ رِسَالَـةٌيَمْشِي إليكَ بها الضَّمِيرُ عَجُولا

حُجَـجٌ مَضَتْ ، وأُعِيدُهُ في هَاشِمٍ.. قَوْلاً نَبِيلاً ، يَسْتَمِيحُ نَبِيلا

يا ابنَ الذينَ تَنَزَّلَتْ بِبُيُوتِـهِمْ.. سُوَرُ الكِتَابِ ، ورُتّلَتْ تَرْتِيلا

الحَامِلِينَ مِنَ الأَمَانَةِ ثِقْلَـهَـا.. لا مُصْعِرِينَ ولا أَصَاغِرَ مِيلا

والطَّامِسِينَ من الجهالَـةِ غَيْهَبَـاً.. والمُطْلِعِينَ مِنَ النُّهَـى قِنْدِيلا

والجَاعِلينَ بُيوتَـهُمْ وقُبورَهُـمْ.. للسَّائِلينَ عَنِ الكِـرَامِ دِلِيلا

شَدَّتْ عُرُوقَكَ من كَرَائِمِ هاشِـمٍ.. بِيضٌ نَمَيْنَ خَديجـةً وبَتُولا

وحَنَتْ عَلَيْكَ من الجُدُودِ ذُؤابَـةٌ.. رَعَتِ الحُسَيْنَ وجَعْفَراً وعَقِيلا

هذي قُبُورُ بَنِي أَبِيكَ ودُورُهُـمْ.. يَمْلأنَ عُرْضَاً في الحِجَازِ وطُولا

مَا كَانَ حَـجُّ الشَّافِعِيـنَ إليهِمُ.. في المَشْرِقَيْنِ طَفَالَـةً وفُضُولا

حُبُّ الأُلَى سَكَنُوا الدِّيَـارَ يَشُـفُّهُمْ.. فَيُعَاوِدُونَ طُلُولَها تَقْبِيلا

يا ابنَ النَبِيّ ، وللمُلُـوكِ رِسَالَـةٌ،.. مَنْ حَقَّهَا بالعَدْلِ كَانَ رَسُولا

قَسَمَاً بِمَنْ أَوْلاكَ أوْفَـى نِعْمَـةٍ.. مِنْ شَعْبِكَ التَّمْجِيدَ والتأهِيلا

أَني شَفَيْتُ بِقُرْبِ مَجْدِكَ سَاعَـة.. من لَهْفَةِ القَلْبِ المَشُوقِ غَلِيلا

وأَبَيْتَ شَأْنَ ذَوِيـكَ إلاّ مِنَّـةً.. لَيْسَتْ تُبَارِحُ رَبْعَكَ المَأْهُولا

فوَسَمْتَني شَرَفَاً وكَيْـدَ حَوَاسِـدٍ.. بِهِمَا أَعَزَّ الفَاضِـلُ المَفْضُولا

ولسوفَ تَعْرِفُ بعـدَها يا سيّـدي.. أَنِّي أُجَازِي بالجَمِيلِ جَمِيلا


[email protected]