إذا كان الله عز وجل ختم الرسل بنبينا الأمين ﷺ،فما ختم الرحماء،بل ما زال سبحانه يبعثهم إلى دنيانا كلما اشتدت بنا قسوة الحياة،وكلما كشّر الإنسان أنيابه في وجه أخيه الإنسان،وكلما اكفهَرَّت القلوب بالمطامع،وتهاوت إنسانيتها التي أودعها الله فيها.

للرحماء صفة تلازمهم كما يلازم النور البياض، إنها صفة العطاء.. يعطون وكأنهم الآخذون، ويَجُودون ويَجِدون في العطاء سعادة يقاومون بها بؤس الحياة، ويهبهم الله كرامة البركات؛ فقليلهم كثير، وكثيرهم يفيض على الدنيا فينعشها، والمصائب عنهم مدفوعة.
من هؤلاء الرحماء الكرماء أهل العطاء الملاك العطوف؛طبيب المساكين؛ذلك الشيخ النبيل الذي عاش حياته في شظفٍ من العيش، وضيقٍ من الحال، لكنه عاش طويلًا في رحابة البذل والعطاء، عاش مثل سحابةٍ ماطرة تروي الفقراء والمساكين،
سحابة تطفئ لهيب أوجاعهم في هذا العالم الذي أضحت فيه الرأسمالية هي العرف الذي يؤمن به العالَم،وعلى أساسه تتشكل علاقات الإنسان بمن حوله
هو من بين العالمين والملايين أنكر ذاته،ولذات دنياه،وأهواء نفسه،مؤمنًا بحق الفقراء والمستضعفين في حصولهم على العلاج بثمنٍ بخس لتوفير حياة كريمة لهم
وُلِد «طبيب الغلابة» د. محمد عبدالغفار مشالي في إحدى قرى محافظة البحيرة عام 1944م، وتخرج في كلية طب القاهرة عام 1967م، ثم تربع على عرش قلوب المصريين بعد أن سخّر نفسه لمعالجة الفقراء والمساكين في عيادته.

بداية د. محمد عبدالغفار مشالي في خدمة الفقراء ومداواة أوجاعهم بسبب موقف إنساني غيّر فيه كل شيء؛ إذ عُيِّنَ طبيبًا في إحدى الوحدات الصحية بمنطقة فقيرة، وكان هناك طفل صغير مريض بالسكري يبكي من الألم، ويقول لوالدته: أعطيني حقنة الإنسولين، فاعتذرت أم الطفل بكونها لا تملك ثمن الحقنة،
إذ لو اشترتها فلن تستطيع حينها شراء الطعام لباقي إخوته، ليسارع بعدها الطفل، ويصعد إلى سطح المنزل، ويشعل النار في نفسه، ويسرع د. محمد مشالي نحوه محاولاً إنقاذه، فلم يتمكن، وكان آخر ما قاله الطفل لأمه وهو يلفظ آخر أنفاسه: يا ماما فعلت ذلك من أجل توفير ثمن الإنسولين لإخوتي!
يقول الطبيب الراحل إنه منذ تلك الواقعة قرر أن يهب نفسه لخدمة الفقراء والمساكين وعلاجهم، مضيفًا أنه نشأ في أسرة فقيرة متواضعة، وقد عانى كثيرًا حتى وصل إلى ما وصل إليه، ونظرا لما عاناه هو وأشقّاؤه شعر بمعاناة الفقراء.
ويروي عنه كل من اقترب منه أنه زاهدٌ في الدنيا لا يريد منها زخرفها، كل ما يريده هو ثواب الله، ورسم الفرحة على وجوه الأهالي الفقراء، وكان يجد بذلك سعادة متناهية، ورضا بالغا.
وبعد مسيرة حافلة بالإنجازات والنجاحات يختتم د. محمد مشالي المسيرة بأعطر سيرة، صاعدًا إلى أخراه ميمِّمًا وجه مولاه صباح 28 من يوليو 2020م في مدينة طنطا بمحافظة الغربية.
اليوم 29 / 7 / 2021 م يوافق ذكرى وفاته الأولى رحمه الله.. ذكرى وفاة إنسان عظيم الإنسانية باذخ العطاء، شديد الإيثار، صادق البذل، إنسان يريد وجه الله وما عند الله.. إنسان عرف أسرار التوفيق، وفهم لغة النجاة، وأدرك حكمة الحياة،
من مأثور أقواله رحمه الله التي تفصح عن سمو ذاته، وشموخ تطلعاته إذ قال: «نشأت فقيرًا، وساندويتش الفول والطعمية يكفيني، ولا أريد أن أرتدي ملابس بآلاف الجنيهات، أو أستقل سيارة طولها عشرة أمتار».
توفي رحمه الله وأثر باقٍ، وإن كان طبيب أجساد ناجحا استطاع مداواة المساكين فهو أيضًا طبيب أرواح ماهر استطاع ترويض نفوس المقتدرين، وتشجيعها على البذل والعطاء.
وها هو أحد خريجي مدرسته الروحية
د. حسني سعد قطب استشاري جراحات وأمراض الكبد يُحْيي ذكراه، ويقتفي نهجه، ويسير سيرته ..
إذ يتفق مع أسرة الطبيب على فتح عيادة باسم الفقيد رحمه الله د. محمد مشالي، والقيام بكل تكاليفها ، على ألا تتجاوز قيمة الكشف 15 جنيها على جميع المراجعين للعيادة من المرضى والفقراء.
حقا لا يُعرف منحة إلهية أفخر من منحة العطاء يمنحها الله عبده، فيجد فيها لذته، ويجد فيها ضعف سعادة الآخذ.
إذا رأيتَ مُغرمًا بالعطاء فتأكد أن الله اصطفاه، وأراد له الخير، وإن كان الفضائل نجوما فإن فضيلة العطاء قمرها الدوار، وتاجها البراق.

قفلة:
للأخذ لذة، وللعطاء لذّات.
هذا ما يؤمن به أهل العطاء،ومَن صَدَقَ مع الله وأعطى جَلَّلَتْه عناية الله، وكفاه سبحانه شرور نفسه والناس، وبارك في أهله وماله،وجعل قليله كثيرا،وكثيره سحبًا ممتدة تفيض بالخير والحب والحياة.
جرِّبوا، واشتروا أنفسكم بالعطاء،واغنموا حسن المآلات.