أشاهد أحيانا بعض اللقاءآت الحوارية في ساحات تويتر ( spaces) التي أصبحت أقوى وسائل الاتصال الحديثة وأكثرها تأثيراً على وعي المشاركين كمتحدثين أو مستمعين .
وقد اتجهت أغلب الحوارات في بعض تلك الساحات الى الاهتمام بالفلسفة واساتذتها منذ سقراط وافلاطون وارسطو مروراً بفلاسفة التنوير الغربي هيقل و ديكارت وكانط واسبنوزا وجان لوك وروسو ونيتشه وهيوم وحتى ميشيل فوكو وسارتر .
شاركت قليلا في بعض تلك الحوارات ولاحظت ان بعضهم يعتقد انه مجرد ان يتذكر ماقرأه من افكار وعبارات ونظريات لأولئك الفلاسفة والمفكرين التنويريين قد أصلح فيلسوفاً أو مفكرا ، مجرد أن يردد تلك المقولات كحقائق كاملة وشاملة غير قابلة للشك أو التحقق أو النقص .و دون أن يدركوا ان دارس الفلسفة والفكر واستاذها وقارئها قد يكون بارعاً في الحفظ والتذكر وسرد مايعرف لكنه غير قادر ان يصنع فكرة وأنه ليس بالضرورة ان تكون قارئاً جيدا لكتب الفلسفة والفكر كي تكون فيلسوفا أو مفكرا .. مثلما يكون الناقد الأدبي قادراً على نقد نص أدبي عال المستوى ولا يملك القدرة على كتابة سطر لنص ابداعي من خياله!
لكنه بكل تأكيد سيكون ذو العقل المفكر أكثر ابحاراً وتعمقاً وصانعاً للأفكار كلما كان أغزر قراءة لكل المعارف الفكرية والفلسفية وسوف يكون أكثر اقناعاً وتأثيراً عندما يعزز أفكاره وفلسفته الخاصة بأقوال وافكار ونظريات من سبقوه في عالم المعرفة بشرط أن تكون له افكاره وفلسفته التي لا تشبه غيره ، ومثلما يكون الأديب أكثر غزارة في كتابة النصوص الأكثر ابداعاً وتخيلاً كلما قرأ الكثير من كتب الأدب والمعرفة التي لا تنتمي لنوع واحد من الفكر والأدب .
لذلك فقد طلبت من المتحاورين في أكثر من حوار عبر تلك الساحات أن يكونوا أنفسهم بأفكارهم هم وليس بأفكار غيرهم ولا مانع من تعزيز تلك الأفكار بأفكار وفلسفات غيرهم . لكني وجدت فقراً في صناعة الفكرة الجديدة التي تنبثق من عقول المتحاورين ومن قناعاتهم دون أن تكون مجرد صورة لفكرة فلسفية قديمة أو صدى لصوت قديم لم يعد منتمياً للغة العصر الحديث أو ( اللسان) مثلما يقول دكتور الفلسفة الاستاذ نور الدين السافي الذي اضفى عمقاً فلسفياً معرفياً في عقول مستمعيه عندما كان ضيفاً لبعض الساحات التي تنورت بفكره المستنير ودراسته المتعمقة للفلسفة بشكل منهجي جعل الكثيرون يحرصون على حضور أمسياته بحماس كبير دفعهم لحب التفكر وقراءة كتب الفلسفة ، بل أن الدكتور نورالدين السافي تميز بتبسيطة لغة الفلسفة بعيداً عن تعقيدات الفلاسفة وبرع في الإرتقاء بتفسيره الفلسفي للموروث حتى تجلت الأفكار الفلسفية في أبهى صورها . كما وجدت أن عقول بعض أولئك المتحاورين مجرد محتويات تردد افكاراً وفلسفات قديمة كحقائق مقدسة ويعتقدون انها ماتزال صالحة بكل ما فيها من بعض تناقضات ربما لم تعد صالحة لكل عصر وزمان رغم أهمية وعظمة الكثير فيها ليس كحقائق مطلقة وانما كدوافع وتحفيز للتفكر بشكل دائم . ثم لاحظت انه لافرق بين اولئك الذين يعتقدون التنوير بترديدهم لأفكار التنويريين الغربيين في العصور القديمة وبين أولئك التقليديين الذين يتداخلون معهم احيانا في تلك الساحات بفكرهم التقليدي ( التلقيني) الجامد الرافض للتغيير والتطور ! لأن كل من الطرفين يتحدث بفكر مسبق تلقاه عبر التلقين القسري أو حتى الاختياري غير القابل للشك المنهجي وليس عبر التفكير النابع من قناعة عقل متحرر من قيود المسلمات بكل تنوعاتها ومعطياتها وارهاصاتها القديمة. لذلك لا يلجأ أي من الاطراف الى الاقناع بالعقل والحجة عندما يشتد الإختلاف بينهم بقدر مايلجأ الى تبادل القمع الفكري الذي يجعل أحدهما يستخدم وسيلة العودة بمحاوره الى اللاوعي ( الخائف ) كوسيلة تقليدية يستخدمها (المؤدلج التقليدي) كلما شعر بضعف حجته أمام محاوريه . وتدفع الآخر( المستنير المُقَلِّد) أن يلجأ الى طرد ذلك الطرف المؤدلج من ساحته عندما يشعر أنه قد وقع في الفخ الذي يراد له ان يكون مجرد محكمة لنواياه وليس مناظرة لأفكاره .
ثم لاحظت اقبالاً كبيراً عند المشاركين في تلك الساحات لقراءة كتب فكر التنوير الغربي وماقبل عصر النهضة وبعدها ، كدليل على ان الناس بدأت لاتثق في انساقها الثقافية كبداية لاستخدام الشك المنهجي الديكارتي ضد المسلمات التي أصبحت عرضة للشك بفعل التقدم التكنلوجي والحضاري القلوبلي العالمي . بل أن بعضهم اصبحت لديه نزعة لقراءة كتب الفلاسفة العرب والمسلمين الذين تم زندقتهم في الداخل العربي والاسلامي رغم التفاخر بهم أمام الغرب كابن سينا وابن رشد والفارابي وغيرهم من فلاسفة العرب والمسلمين الذين لايقلون فلسفة وابداعا عن فلاسفة الغرب ان لم يكونوا قد تفوقوا عليهم . بل ان ابن سينا وابن رشد والفارابي كانوا اعمق فكرا واغزر فلسفة من فلاسفة الغرب في الكثير من المواضع الفكرية والعلمية والفلسفية ، حيث نعرف ان الغرب عاش ستة قرون يعتمد على كتب ابن سينا في الطب ، كما انهم قد اقتبسوا الكثير من فلسفة العرب والمسلمين مثلما فعل ديكارت عندما اقتبس فكرته ( الكوجيتو) والتي تقول ( أنا أفكر أنا موجود ) من فكرة بن سينا ( الكائن الطائر ) ونرددها باستمرار وكأنها لديكارت . مثلما نردد دائما مقولة الاديب العربي العبقري جبران خليل جبران ( لا تسأل وطنك عما قدم لك بل اسأل نفسك عما قدمت لوطنك ) وننسبها للرئيس الامريكي الأسبق كنيدي .
لكننا مهما قلنا أنه كان لعدد قليل من فلاسفة وعلماء العرب والمسلمين المبدعين الاستثنائيين القليلين من مشاركات فكرية وفلسفية وعلمية في واقعهم المتخلف وكان لها أثر جيد على واقع الحضارة الغربية المتقدمة فان ذلك لا يحسب كمجد عربي واسلامي لأولئك الأشخاص القلائل المُزندقين بقدر مايكون مجداً وفخراً للواقع الآخر الذي تبنى أفكارهم واستفاد منها ولم يتبرأ منها!

أعود لأولئك المثقفين المحترمين الذين يتحاورون بفكر مستنير وثقافة راقية في ساحات ال Twitter مؤكداً أنهم يقودون الوعي الجمعي العربي الى مساحات متقدمة من التفكر والتدبر الأبعد خضوعاً للمسلمات والفكر المسبق ، رغم اعتمادهم على فلسفة التنوير الغربية أكثر من اعتمادهم على افكارهم وفلسفاتهم الجديدة التي تمثل العصر الأكثر اختلافاً عن كل العصور .لكنهم بكل أمانة يجذبون الناس اليهم باستحضارهم لأسباب تخلف ونهوض الحضارة الغربية والتحدث بتلك الفلسفات والنظريات الفكرية القديمة التي تظل رغم قدمها محفزة للعقل العربي الغارق في ماضيه الفكري دون ان يشعر انه ينتمي الى حضارة القرن التاسع عشر ناهيك عن القرن الواحد والعشرين .ثم ان استحضار الفلسفة الغربية التنويرية ورموز التنوير قد دفع الناس في تلك الساحات للبحث عن قراءة ماضي الغرب بكل مافيه من حروب واحداث وافكار وفلسفات وتغيرات . وقد بدأت العقول العربية المتعطشة للمعرفة المختلفة عن السائد تلجأ الى المقارنة بين العصور الغربية القديمة والعصر العربي الحديث لمعرفة التشابه والفوارق في الفكر والظروف والنتائج وستبدأ تلك العقول بعد ذلك في استنباط افكارها ثم صناعة الفكرة الجديدة مجرد ان يتشكل الوعي الجديد الذي استوحى من تجارب الاخرين القديمة ما يشبه واقعه الحديث كي يتعرف على مكامن ضعفه وجرحه وألمه .. ثم ينطلق في الفضاء الجديد بوعي جمعي آخر أكثر خبرة واستنارة .
وسينتقل أولئك الذين يمارسون دور التنوير الحالي انطلاقاً مما عرفوه عبر عقول التنوير الغربي القديم ، الى خلق تنويرهم الخاص وفلسفتهم الخاصة التي لاتعتمد على ماقاله فلان وعلان وانما تعتمد على ما تقوله وتفلسفه الأنا الحاضرة .وسوف تدرك العقول المستنيره الحديثة ان في أفق الفكر والعلم والفلسفة الذي ادرك ذات يوم ان الارض تدور عكس مايقوله المؤدلجون ، ماسوف يخالف فكر الذين قالوا ان العقل تجريبي فقط .. او فطري فقط ، او كلاهما . او يضيف على تلك الافكار مايكتشف ابعاداً أخرى للعقل … فيصبح كانط وهيوم ولوك وهيقل وديكارت وغيرهم من التجريبيين والعقليين .. مجرد تاريخ لمفكرين عظماء اناروا عتمة عقول ازمانهم لكنهم لم يقولوا كل شيء … إلا أنهم بما تركوه من نور بقي يحرك الراكد في العقول التي لا تتوقف عن التفكر .. لتخلق فكراً أكثر تنويراً يسير بالحياة صوب الكمال الذي لن يكتمل !
وجمال الحياة : يكمن في عدم اكتمالها !!

[email protected]