العلاقات التاريخية بين الكنيستين القبطية والإثيوبية جعلت البعض يتوسم في حل ملف سد النهضة الإثيوبي من قبل الكنيسة المصرية، خاصة أنه من المعروف تاريخيًا أن الكنيسة المصرية هي الأم للكنيسة الإثيوبية، ومن هنا بدأت مساعي الكنيسة القبطية تجاه ملف سد النهضة، ولكن باءت هذه الجهود بالفشل.. ولا يعلم الكثيرون ما انطوت عليه هذه الروابط من تطورات وأحداث أدت إلى فشل كل هذه المساعي. ولا يختلف المشهد الآن من فشل كل جهود الحكومة المصرية إلى فشل الكنيسة القبطية!.. النتيجة في النهاية عنوانها الفشل وذهبت جهودها أدراج الرياح، ما دفع البعض إلى التساؤل: لماذا تعثرت الكنيسة مثلما تعثرت الحكومة المصرية؟ وما السبب وراء هذا التعثر؟ أليست الكنيسة الإثيوبية الابنة الصغرى للكنيسة المصرية؟!.
كانت الكنيسة المصرية لها اليد العليا في حل أزمة تدفق مياه النيل من إثيوبيا في أكثر من عهد، وهو ما أكدته بعض المراجع التاريخية، وأهمها كتاب الدكتور أنتوني سوريال عبدالسيد «العلاقات المصرية الإثيوبية»، حيث ذكر أنه فى عهد المستنصر بالله الفاطمي، قررت إثيوبيا بناء سدود على النيل، وبالتالي تمنع تدفق الماء إلى مصر، فبعث المستنصر، بطريرك الكنيسة المصرية الأنبا ميخائيل إلى الحبشة وحمّله بهدايا للنجاشي حاكم الحبشة، تفاوض البطريرك مع النجاشي فوافق علي فتح أحد السدود المبنية التي كانت حائلا دون تدفق مياه النيل.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد ولكن تكررت نفس المشكلة في عهد محمد علي، حاكم مصر، ولولا تدخل البابا بطرس الجاولي وقتئذ لم تحل مشكلة المياه.. وفي عهد سعيد باشا الذي حكم مصر عام 1854 كادت تجف مياه النيل، فبعث الخديو سعيد، البابا كيرلس الرابع، لحل مشكلة المياه، واستطاع البابا كيرلس بحكمته الرصينة حل هذه المشكلة.
اليد العليا للكنيسة القبطية في إثيوبيا نشأت بحكم العلاقات التاريخية بين الكنيستين المصرية والإثيوبية، فالكنيستان تتبعان العقيدة الأرثوذكسية وتتمتعان بعلاقات قوية، فحتى عام 1949، كان مطران كنيسة إثيوبيا راهبًا مصريًا، وكانت سلطاته تصل إلى أنه يمكن أن يمنع إقامة أي مشروع بحكم أنه طرف في إدارة الدولة الإثيوبية، ولابد أن يوقع على هذه القرارات، ولذلك اعتبرت الكنيسة المصرية هي «الأم» للكنيسة الإثيوبية، وظل الحال على ما هو عليه، حتى بدأت مطالبات الكنيسة الإثيوبية بإدخال تعديلات على العلاقة بين الكنيستين، انتهت بقيام كنيسة الإسكندرية بترسيم الأنبا باسيليوس أول بطريرك إثيوبي للكنيسة الإثيوبية عام 1949، وهو الاتفاق الذي مهد للانفصال بين الكنيستين، وبسيطرة الشيوعيين على إثيوبيا عام 1974 انفصلت الكنيسة عن الدولة، وصدر دستور جديد لدولة مدنية لا دخل للكنيسة في شئونها، وانقطع التواصل بين الكنيستين، وأصبح منذ ذلك الوقت تواصلًا روحيًا وتمثيلًا شرفيًا في المناسبات.
«نصلي أن يُنجح الله الجهود الطيبة والدبلوماسية حتى لا نلجأ لأي جهود أخرى، فالماء عطية إلهية يعطيها الله للشعوب منذ آلاف السنين، ونهر النيل تعيش على ضفافه دول منذ فجر التاريخ، ولذلك ندعو الجميع للبعد عن التعنت واللجوء للحل التوافقي الذي يضمن التنمية لكل الشعوب، ونحن نتمنى أن نعيش في حالة من السلام والنمو».. تلك هي بعض من كلمات رسالة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية في مايو الماضي أثناء صلاة عيد القيامة، والتي وجهها ولأول مرة لدولة إثيوبيا بشأن أزمة سد النهضة والتي تعد تدخلًا بشكل مباشر من رأس الكنيسة القبطية في حل أزمة سد النهضة الإثيوبي بعد صمت طويل منذ توليه كرسي الكرازة المرقسية.
رسائل البابا تواضروس جاءت بعد أن تعثر الملف أكثر من مرة، بسبب تعنت إثيوبيا في الوصول إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف، وتعد حاليًا الكنيسة القبطية هي القوة الناعمة التي تمنح الطرفين الثقة المتبادلة وتؤدي دورها في شكل منظم ومرتب ومعلن وترسل رسائل حب إلى الشعب الإثيوبي، حسبما أكد منسق العلاقات بين الكنيستين الإثيوبية والمصرية الأنبا بيمن، في حديثه معي وقال : «نحن نعمل على توطيد العلاقات بين الشعبين الإثيوبي والمصري لتوفير مناخ مناسب للسياسيين والفنيين حتّى يتم التفاوض في شكل أفضل».
وأشار إلى أن الكنيسة القبطية حاليًا لا تملك أن تتدخل الآن إلا عن طريق الدبلوماسية الناعمة وتصحيح المفاهيم الخاطئة عن نية الإدارة المصرية وليس كما يتردد لهم أن مصر لا تتمنى لهم- الإثيوبيين- الخير ولا التنمية، ويدلل على ذلك بدعوة البابا تواضروس، بابا الكنيسة المصرية، في يناير 2015 لزيارة بطريرك الكنيسة الإثيوبية الأرثوذكسية، البابا متياس الأول، إلى مصر، وعندما عاد إلى بلاده قال في كلمته لتلفزيون الدولة الإثيوبي: «المعاملة في مصر معي تفوق الخيال».
ورد الزيارة البابا تواضروس بسفره إلى إثيوبيا، في رسالة غير مباشرة إلى الشعب الإثيوبي بأن المصريين يحبونهم ويتمنون لهم كل الخير.
وإذا ترقبنا تصريحات بطريرك الكنيسة الإثيوبية حاليًا، فسوف نجد أنه قليل الكلام بشأن سد النهضة مع شعبه، وذلك لسببين: أولهما التضييق العام الذي يتعرض له شخصيًا لأنه مواطن من منطقة تيغراي الشمالية، وهي المنطقة المنقلبة على رئيس الوزراء آبي أحمد. والآخر أنه عاش في المنفى لمدة 30 عامًا لانتقاده النظام الشيوعي في البلاد آنذاك، واستطاع منذ شهور قريبة أن ينتقد حكومة أديس أبابا، لارتكابها إبادة جماعية ضد شعب تيغراي، ويتردد حاليًا أنه تحت «الإقامة الجبرية غير الرسمية».
وختامًا، سوف يظل ملف سد النهضة الحاضر الغائب في الكنيسة المصرية بالطريقة الدبلوماسية للقوة الناعمة في اتجاه الكنيسة الإثيوبية.. وقطعًا، لم تعد للكنيسة القبطية المصرية حاليًا اليد العليا في قرارات الكنيسة الإثيوبية، وهو ما أكده حديث البابا تواضروس مع الإعلامي المصري شريف عامر العام الماضي وتصريحه بأن «دخول الكنيسة المصرية في أزمة سد النهضة مش سياسة، ولكن كنيسة إثيوبيا لم تعد كما كانت قبل 60 سنة، إذ تعرضت للضعف، ولم يعد لها نفس الدور الذي يمكن أن تقوم به، لأنها كانت مرتبطة مباشرة بالإمبراطور هيلاسلاسي الذي كان أرثوذكسيًا».
التعليقات