الاغتيال ليس فقط بإزهاق الروح كما هو معروف، إنما أحيانا يكون بفكرة يمكن لها أن تغتال أمة.. «النازية» فكرة متطرفة راح ضحاياها ملايين، و«الفاشية» فكرة موسوليني راح آلاف الإيطاليين ضحية لها.. وغيرهما من الأفكار المتطرفة التي شهدها العالم وأودت بحياة الملايين، وصولًا إلى فكرة «الجهاد الإسلامي» التي راح ولا يزال الكثير من ضحاياها في كل بقاع العالم، ومن ضمن أبرز الدول التي عانت ومازالت تعاني من فكرة «الجهاد الإسلامي» مصر، التي تعرضت لكثير من العمليات الإرهابية والاغتيالات تحت اسم (الجهاد في سبيل الله).. وأتناول هنا فقط مثالًا واحدًا لهذه العمليات المروعة التي اهتز لها العالم كله، إنها عملية اغتيال الرئيس أنور السادات التي تحل ذكرى رحيله يوم 6 أكتوبر من كل عام.

فقد عاشت مصر أوقاتًا عصيبة وقت «الاغتيال الأول» - من وجهة نظري- للرئيس المصري صاحب نوبل السلام أنور السادات صباح الثلاثاء السادس من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1981، حيث قامت مجموعة من المنتمين إلى إحدى الجماعات الإسلامية بإطلاق وابل من الرصاص على «السادات» أثناء العرض العسكري للاحتفال بذكرى النصر (حرب أكتوبر 1973)، حتى لقى ربه.

لم يكتف هؤلاء بإزهاق روح الرئيس أنور السادات يوم ذكرى نصره على إسرائيل، بل استطاعوا أن يغتالوه مرة ثانية - من وجهة نظري - بدم بارد أثناء جلسات محاكمتهم.. والمفاجأة التي أدهشت الجميع والمأساة التي لم ينسها التاريخ عندما انتصر الفكر المتطرف باختراقه أبواب العدالة، حيث استطاعت هيئة الدفاع عن المتهمين أن تحول محاكمة قتلة الرئيس المصري إلى حلقة جدل فقهية حول مفهوم (الحاكمية في الإسلام)، وأن عملية اغتيال «السادات» كانت قصاصًا شرعيًا من حاكم كافر مهدور دمه شرعًا، وتحولت محاكمة قتلة «السادات» - التي استمرت حوالي ثلاثة أشهر ونصف الشهر، منها تسعمائة ساعة استغرقتها المرافعات - إلى محاكمة «السادات» نفسه، وشارك فيها نحو ستين محاميًا من أشهر محاميّ مصر، يمثلون مختلف التيارات والأحزاب، جاءوا من كل مكان ليصفّوا خلافتهم ضد السادات.

وفجأةً، تراجعت عقارب الساعة إلى الخلف، واختل ميزان العدالة، ولو لأيام، عندما تعالت الأصوات والهتافات تنادي «إسلامية.. إسلامية»، «خيبر .. خيبر يا يهود»، «في سبيل الله قمنا .. نبتغي رفع اللواء/ لا لدنيا قد عملنا.. نحن للدين فداء/ فليعُد للدين مجده.. أو ترق منَّا دماء/ أو ترق منهم دماء.. أو ترق كل الدماء» - شعار الجماعة الإسلامية - والتي هزت أرجاء قاعة المحكمة وسُمِع دويها في كل مكان، ومن خلالها استطاع الدفاع أن يتلاعب بالحقيقة، ووصلت براعة الدفاع إلى أن أوقع المحكمة في حيرة، حين ساق من واقع المستندات والشهود والتقارير الطبية أن «الإسلامبولي ورفاقه» ليسوا مذنبين.

طعنة التطرف في الاغتيال الثاني لـ«السادات» لم تهدأ بعد، بل بدأت في استقطاب مراسلي الإعلام الغربي إلى القاعة، بإقناعهم بأن الرئيس المصري كان يستحق القتل لأجل الله، فقد ألقى أحد القتلة في ساحة المحكمة خطابًا طويلًا باللغة الإنجليزية قائلًا في بعض كلماته: «قتلنا السادات لأجل الله والإسلام» - والله والإسلام بريئان بكل تأكيد من هذا الفكر.

واستطاع الدفاع طوال فترة المحاكمة أن يدين فترة حكم «السادات»، وركز على اعتقالات سبتمبر، وعلى الصلح مع اليهود، وزعم أن بعض التصريحات التي وردت على لسان «السادات»، في بعض خُطبه تعَد استفزازاً للشعب كله- على حد تعبير الدفاع- مستشهداً بقول «السادات» عندما سُئل إن كانت لديه 35 استراحة، فأجاب: «لا، أنا عندي مائة استراحة!!».. وإهاناته لعلماء المسلمين ورجال الكنيسة والأشقاء العرب، وهو ما جعل حمدي عبدالرحمن ، عضو مجلس شوري الجماعة الإسلامية وقتئذ، يصرح فيما بعد بأن القاضي نظر للدافع وراء الاغتيال على أنه دافع نبيل، على حد قوله، فيما قال عبدالحليم مندور، محامى هيئة الدفاع في تصريحات تلفزيونية : «أنا ما كنتش بدعو إلى الخروج على الحاكم، أنا كنت بقدم المبرر اللي سألني فيه عضو اليمين، والخروج على الحاكم مسألة مش سهلة، والشعب لا يخرج على حاكم إلا مضطرًا وبضوابط شرعية صارمة، لأن الخروج على الحاكم قد يؤدي إلى فتنة أشد من فتنة عدم الحكم بما أنزل الله، ما يؤدي إلى حرب أهلية مثلًا».

وفي نهاية المشهد الذي تلاعب به الدفاع بالعدالة وجعل العالم كله يفقد أعصابه، أصدرت المحكمة حكمها بإعدام خمسة أفراد من الجماعة، وهم: (خالد شوقي الإسلامبولى، وعبد الحميد عبدالسلام، وعطا طايل حميدة، وحسين عباس محمد، ومحمد عبدالسلام فرج)، والأشغال الشاقة بين خمس سنوات وخمس وعشرين سنة على 19 آخرين.. وفي صباح 14 أبريل 1982، تم تنفيذ حكم الإعدام في المحكوم عليهم الخمسة، بعد أن رفضت التماسات إعادة النظر، التي تقدموا بها خلال الفترة القانونية، فيما قام أعضاء الجماعة من دول بالخارج بالتدخل بعدة محاولات وبكل قوة للعدول عن الحكم، ولكنها بأت كلها بالفشل.

عندما نتأمل الحكم وإدانته للقتلة، سوف نجد الإدانة تشمل المحكوم عليهم فقط، ولكن هناك من أباح بحلال الفكرة وتنفيذها، وهذا ما أكدته والدة خالد الإسلامبولى الحاجة قدرية - التى توفيت منذ أعوام - في لقاء تلفزيوني، عارضة بعضًا من تفاصيل حياة ابنها، إذ قالت: «إن خالد لم يأخذ فتواه من محمد عبدالسلام فرج، مفتى تنظيم الجهاد، ولكنه سأل الشيخ عبدالله السماوى، أحد قيادات التيار الإسلامى، والشيخ عبدالحميد كشك، الداعية الشهير فى هذا العصر، عن قتل السادات، فقال له إنه يحق له قتله لأنه خرج عن الدين والتقاليد، وقال له إن كل من يوالى الكفار فهو مثلهم، وكان السادات وقتها يوالى اليهود والأمريكان، لذلك ابنى خالد مات فى سبيل الله، والعالم كله كان يكره السادات الذى نصّب نفسه إلهًا قبل اغتياله» - بحسب روايتها.

كما قام النظام الإيراني بإطلاق اسم خالد الإسلامبولي على أحد شوارع العاصمة طهران، وذلك نكاية في السادات الذي كان قد استقبل شاه إيران المخلوع محمد رضا بهلوي، وفي عام 2004 صدر قرار بتغيير اسم الشارع.

حقيقةً، لم يسدل الستار على الفكر المتطرف - رغم الإعدام والعقوبات الأخرى - والذي ألقى بظلاله الآثمة على مصر وبدعم من بعض الدول العربية والأجنبية، بل استطاع أن ينبت ونجني ثماره الشيطانية في جميع أنحاء الوطن العربي والعالم الآن.. ولكنّا له صامدون، وعلى المجتمع فهم صحيح نصوص الدين، حسبما طالب به الرئيس عبد الفتاح السيسي في تجديد الخطاب الديني والتمسك بالتعاليم الدينية والقيم الأخلاقية وعدم مجاوزة الحد، تحقيقًا لقوله تعالى (لا تغلوا في دينكم غير الحق) «المائدة – 77»، ونهانا سبحانه وتعالى عن الإثم والعدوان والقتل بغير الحق في قوله: (منْ قتَلَ نفْساً بغيْر نفْسٍ أو فَسَادٍ في الأرضِ فكأنّما قتلَ النَّاسَ جميعاً، ومَنْ أحْياها فكأنّما أحيا الناسَ جميعاً) «المائدة - 32».