لا شيء في هذه الحياة يجلب الطمأنينة كالسلام مع النفس والناس،.. ومن دون هذا السلام قل على الطمأنينة السلام.

يوماً بعد آخر ستدرك مع تقدم العمر أن لا عداوة باقية، ولا خصام يدوم، ولا تتوقع أبدًا أنها ستصفو حياتك مع كائنٍ من كان دون خلافاتٍ أو اختلافات

إنّ أعظم الخسارات التي يُمنَى بها المرء في حياته هي خسارته لأهله وأحبابه وصحبه من أجل خصومةٍ ظن حال وقوعها أنها أمر مفصلي يستحق مشقة الخسارات!

مهما كانت الاختلافات حادة فلا شيء على الإطلاق يستحق أن يخسر المرء أخاه، أو يهجر رحمه، أو يطوي علاقة رسّخَتْها التجارب والأيام.

إذا كان المولى جل في علاه يغفر لمن أشرك به إذا وحّد وتاب وأسلم وجهه لله، فقل لي بربّك يا ابن آدم كيف حال قلبك إذا استبد به السواد، وسادت به الأحقاد،وأبى أن يغفر، وهو في بحار ذنوبه تائهٌ غارق، وإلى المغفرة فقير محتاج ؟!

هل بلغت من الكمال والتمام حدّا ظننت به أنك منزّه عما يشِين،وأوحى لك وهمك أنك أكبر من أن تقترف ما ينفر الآخرين؟!

قلّب في صفحات تاريخك بإنصاف،ونبّش في ذاكرة الأيام،وحتما ستجد صحائف سوداء ورمادية شوهت بها سجل بياضك،ومع ذلك غفرها لك من تأبى أنتكون مثلهم في السماحة والطيبة والتجاوز.

نسيت ذاك الذي أحرجته؟وذلك الذي قسوت عليه؟وهذا الذي أسأت إليه؟وتلك التي أجريت دموعها؟وتلك التي أطفأت ابتسامتها؟!

كلهم غفر لك،وكلهم طوى صفحة الماضي بإحسان،وذرّ عليها نفحة نسيان،فما بالك أنت تأبى إلا أخذ حقك بطريقتك التي ترضيك،وتَرضَى أن يعفو عنك الناسوأما رضاؤك عنهم فليس بمرضيك!

أتجمع مع قسوة القلب أنانية،ومع شهوة الأخذ بخلا، وتجازي المحسنين بالجحود، ولا ترى فضل الله عليك يا كَنُود؟!

عُد إلى نفسك يا مسكين، واعترف اعتراف مستكين،بأن قساوة قلبك لم تشف غليله، ولم تقرب البعيد،ولا أصلحت ما انكسر،بل زادتك قسوة على قسوة،وجفوةعلى جفوة، وصار الناس منك أكثر حذرا،

ذلك .. لأنهم رأوا فيك شخصًا يأخذ العفو ولا يعطيه، ويقسو على مَن يسترضيه، ويُرضي هوى نفسه والله أحق أن يُرضيه.

ترفق بنفسك، وعَوِّد نفسك العفو، حتى يكون سجية فيك، وتجد فيه لذة تعود عليك بالطمأنينة والتوفيق، فطالما وجد الكرام في العفو لذة لا يجدها اللئام فيالانتقام،

ما الانتقام إلا شكل من أشكال تعذيب النفس،وتحميلها ما لا تطيق!

لأجلك أنت قبل غيرك بادر فورًا واطْوِ صفحاتك القاتمة، وابدأ صفحة بيضاء تتلوها صحف مطهرة..

ابدأ بالعفو عمن أساء إليك من أهلك، ومن أحبابك، ومن جيرانك، ومن زملائك، حتى أولئك العابرين الذين لاقيتهم صدفة، وابتلَعَهم الغياب،

اعف عنهم جميعًا فيما اقترفوه بحقك سهوًا أو عمدا، فما العفو عن الخطأ السهو إلا واجب من أهل الواجب،وما العفو عن الخطأ العمد إلا سجية النفوسالكبيرة التي يكافئها الله بنفسه بما لا يخطر على بال.

وماذا لو لم تعفُ؟هلا سألت نفسك يا مسكين؟ماذا ستستفيد؟وماذا ينفعك شقاؤهم لو حل بهم الشقاء؟

وهل تعلم أنك بعدم عفوك عنهم تحرم نفسك تعويض الكريم الرحيم، نعم سيوقع بهم ما يستحقون، لكنه لن يعطيك ما يعطيه العافين عن الناس من حسنتعويض.

اجعل العفو منهجًا لك إلا إن كان العفو يجرئ الغاشم عليك، ويجعله يظن حِلمك عليه خوفاً منه، ثم يزداد تماديًا على تماد، وعنادًا على عناد …

فمن كان كذلك لا تَعْفُ عنه،واقطع دابر لؤمه بما يكفله الشرع والنظام.

وتأكد أن أكثر الناس يأسرهم العفو، ويجعلهم مدينين لك بالفضل والولاء،فما العفو إلا إحسان،والإحسان قَيْدُ الإنسان، قال الشاعر:


أحسِنْ إلى الناسِ تَستعبِدْ قلوبَهُمُ

فطالما استَعبَدَ الإنسانَ إحسانُ

وإياك أن يعتذر إليك معتذر عن إساءة بدرت منه، وتكسر خاطره ولا تقبل، بل اقبل اعتذاره، واشكر له حسن بادرته، فما اعتذر إلا أصالةً منه، وإكرامًا لك، ومنكان كذلك فإكرامه واجب، واكتسابه مغنم.

ومما ينسب إلى الشافعي رحمه الله:


قيلَ لي: قد قسا عليكَ فلانٌ

ومقامُ الفَتَى على الذلِّ عارُ!


قلتُ: قد جاءني وأحدَثَ عُذرًا

دِيَةُ الذَّنْبِ عندَنا الإعتذارُ

وقبل ذلك قال الله تعالى في محكم التنزيل:{خُذِ العفو وَأْمُرْ بِالْعُرْف}

ورَغَّبَ في العفو بقوله:{وَليعفوا وَلْيَصفحوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}

ووصف عباده الصالحين بقوله:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَن النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

وأكد هذه المعاني نبينا الكريم ﷺ إذ قال: «ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عِزّا»

وقال أيضا: «أفضلُ الفضائل أن تصِلَ من قطعكَ،وتُعطيَ من حَرمك،وتصفَحَ عمَّنَ ظلمك»

صدقني…كل شيء يقول لك اشتر عفو الله بالعفو عن أخطاء الآخرين،وإن أشرف الثأر العفو.خاصةً العفو عند مقدرتك الأخذ بالثّأر.

وما أحسن ما قال الشاعر ومحمد بن الإستجي:


إذا كنتُ لا أعفو عن الذنبِ من أخٍ

وقلتُ: أجازيهِ، فأين التفاضلُ؟!

ولكنني أُغْضي جفوني على القَذَى

وأصفحُ عما رابني وأجاملُ

متى أقطعِ الإِخوانَ في كُلِّ عثرةٍ

بَقِيتُ وحيدًا ليس لي مَن أُواصِلُ

وما أجمل العهد الذي قطعه الشاعر منصور الكريزي على نفسه إذ يقول:


سأُلزم نفسي الصفح عن كل مذنبٍ

وإن كثرت منه إليّ الجرائم

فما الناس إلا واحد من ثلاثةٍ

شريف ومشروف ومِثْلٌ مقاوم

فأما الذي فوقي فأعرف فضله

وأتْبعُ فيه الحقَّ والحقُّ لازمُ

وأما الذي دوني فإن قال صُنْتُ عن

إجابتِهِ عِرضي وإن لامَ لائمُ

وأما الذي مثلي فإن زلَّ أو هَفا

تفضَّلْتُ إن الحِلمَ للفضلِ حاكمُ

وبعدُ يا طاهر القلب، حياة الإنسان مهما طالت قصيرة، وأيامه مهما كثرت لحظات، وتذكر أن عمر الحسرة أطول من عمر الفرحة، فلا تعش أول حياتك فيغمرة، وآخرها حسرة،

بل كن واصل المعروف، وسيع الخاطر، لين الفؤاد، كريم الصفح، كثير التسامح، بادر وقل للنفس والشيطان والهوى: كفى، فبهذا تنفع نفسك، وتدفع عنهاالشرور، ويغشاك من الله نور.