هل فكرت يومًا في تدوين مذكراتك اليومية؟

ألم تشعر بأهميتك أمام نفسك إلى الحد الذي يغريك بتدوين حركاتها وسكناتها ونوادر لحظاتها؟!

بقدر أهميتك أمام نفسك تتخلق أهمية التدوين، ويكون حينها ضرورةً لا ترفًا

أدرك ذلك الإنسان الحجري، فدون مذكراته على الصخور، وحوائط الكهوف، فكيف بك أيها الإنسان العصري ووسائل الكتابة بين يديك، وطوع أمرك..

هذا القلم، وهذه لوحة المفاتيح، وذاك زر التسجيل!

كلٌّ منا له حياةٌ تستحق أن تُدَوَّن، كلٌّ منا يخوض الحياة بمعاركه الخاصة، وتجاربه الفريدة ..

لن تجد أحدًا على ظهر البسيطة يعيش حياةً ناعمة.

لقد جُبِلَت الحياة على المكاره والتحديات، ووهبنا الله القدرات التي تمكّننا من التغلب عليها، والخروج بأقل الخسائر والأضرار، نحن في خضم هذه الحياة فيمعركة شرسة.. نعم معركة حقيقة غير أن الدماء فيها والجراح تكون في الداخل.

كلٌّ منا يحمل جراحه داخل قلبه ..

منّا من يدرك ذلك، ومنّا من يَجهل.

لو عدت بحياتك إلى الوراء عِقْدًا أو عِقْدينِ لوجدتَ فيها قصصًا وأحداثًا لا تكاد اليوم أن تُصَدِّق أنك من عاشها، أو من كان بطلًا فيها، وكذلك ثمة قصصٌسيفاجئك فيها الشخص الذي كنتَه من طريقة تعاطيك مع ما كان!

حين نقول إن الحياة مدرسة.. لا نقول ذلك مبالغة ولا مجازًا،بل نقوله على سبيل الحقيقة الدامغة،واليقين الثابت.

في الحياة دروسٌ وأيُّ دروس،لكنها دروس متعددة المعلمين،ومعلمون متنوعو المشارب،فمن رحيم إلى قاس،ومن متحدث إلى صامت،ومن باسم إلى عابس،وكلهميأخذ أجوره التعليمية منك غير منقوصة

يأخذون أجورهم من روحك ومن بشاشتك،ومن هدوئك..يأخذون منك كما يفترضون أنك تأخذ منهم،ويَهُون الخَطْبُ لو كنت تأخذ منهم حقّا..الغبن كل الغبن أنيأخذوا منك أجورهم،وألا تأخذ أنت غير إيصالات الأخذ، ثم تعود ويداك خاليتان مما تحملان!

كل حَدَث يمر عليك مرور الكرام هو درسٌ عظيمٌ لك لو وعيتَ إشارات الحياة، وحملتها محمل الجد.

لا شيء إطلاقًا في العلم والتعلم أعظم من التدوين..


إنه القيد الوثيق، والبئر العميق، والبُعد السحيق، والإرشيف الذي لا يُخشى عليه من الإطلاع أو السرقة، فلا تجعل مصيره إلى النسيان والمقابر .

ولبعض الشعراء :

العِلمُ صَيْدٌ والكتابةُ قَيْدُهُ

قَيِّدْ صُيُودَكَ بالحبالِ الواثِقَةْ

فمِنَ الحماقةِ أنْ تَصِيدَ غزالةً

وتُحِيلَهَا بينَ الخَلائقِ طالِقَةْ

عود نفسك الكتابة..

اكتب أحلامك وطموحاتك وآمالك..

اكتب هواياتك،وما تريد أن تكونه في الغد، اكتب عن صدماتك وصعوباتك التي تواجهها في الحياة،

اكتب آمالك التي خابت فيمن وضعت آمالك فيه بعد الله،

اكتب دهشتك ومفاجأتك في أبطالٍ حقيقيين كنت لاتنتظر منهم ولاتتوقع أي شيء فإذا هم لك كل شيء

لا تجعل يومك يمر مرور الكرام، ثم يُطوَى ولا يُروَى.

حين يصادفك حدثٌ ويكون تصرفك تصرفًا مُعَيَّنًا، ولنفترض أنه كان مخالفًا لما تود أن تفعله، فاكتب فورا:

حدث كذا وكذا، وعملتُ كذا وكذا، وكان في نفسي أن أفعل كذا...

ثم اطوِ سِجِلَّك، وامض مع الأيام …

وبعد أيام وأعوام عد إلى سجلك النفيس، وتأمل ما سبق،واعرف خطأك وصوابك، واكتشف نقاط ضعفك وقوتّك،وافهم نفسك كما لم تفهمها من قبل.

الأمر ليس للتسلية،ولا موضةً كتابية إن صح التعبير،ولكنه شيءٌ من محاسبة النفس،وتدوين هفواتها، وتجلية صوابها، وتقويم سلوكها، وتحفيزها على مايستحق التحفيز.

كثيرًا ما تنسى النفس هفواتها،وتخدِّر ضميرها كأن شيئًا لم يكن،وحين يقرأ الإنسان مذكراته سيعرف جيدًا إن كان حادَ عن جادة الطريق.

أعرف مَن يُفَوِّت مشوارًا مهمًّا لوالدته، أو أخته، أو زوجته، من أجل مباراة كرة قدم، وأعرف مَن يسهر طيلة الليل، وحين يوشك الفجر على البزوغ ينام عنالصلاة

، وأعرف مَن شُغْلُها الشاغل المسلسلات عِوَضًا عن مساعدة والدتها في أمور البيت، وأعرف وأعرف وأعرف، ولم يبق إلا أن يعرفوا هم وتعرفوا أنتم أنهم لو دَوَّنوامذكرات أنفسهم، وعادوا إليها بعد حين، لأصبحوا أفضل مما هم عليه، وصاروا أكثر إيجابية مع الحياة، وأكثر فهمًا لأنفسهم والناس.

أرى في التدوين ما لا أراه في غيره؛ فهو الصديق حالة الضيق، والأمان ساعة الخذلان، والرفيق في الطريق، وهو قبل كل شيء وبعده السُّلْطة التي تأخذبيدك، وتأخذ أيضاً على يدك.

صادِقِ القلم، ولاطف لوحة المفاتيح، وهادن التسجيل.. تَصالَحْ مع كل الوسائل التي تعينك على التدوين .

دوِّن ثم دوِّنْ كل يوميّاتك وأحداثك وتصرفاتك بحياد ونزاهة فأنت الخصم والحكم،وستجد الأثر فإن لم تجد أثر ذلك نجاحًا وفلاحًا فدَوِّنْ أني خدعتُك،ودَوِّنْ أيضًاأن صمتي قصيدة، وأن كلامي ضجيج ليس أكثر.

التدوين هو الصورة العالية الدقة لتفاصيل روحك.