«لَمْ تغفلْ عيناكَ هذا المساء!»
«أردْتُ أنْ أستقبلَكِ بكلّي!»
«هلْ نكملُ الحوار؟»
«بالتأكيد؛ وهل هنالك ما هو أجمل من الحديث معكِ والصمتُ القمرُ؟»

وعاد المساء.. الجزء الأوللا عبثًا واستعلاءً... لقد عانقهُ ضوء القمر!
وعاد المساء.. الجزء الثانيالحارس والمنحوت


«قلتَ لي أنّ النهرَ الذي في داخلكَ يتدفقُ بالحياةِ!»
«نعم! يتدفّق لاهثًا خلف ذاك النور المنتظر، يرفضُ في سيره أن تُقام على مجراه السدود، أوْ أنْ تُحدُّ ضفّتيه بالقيود، ينهلُ من ضياء الشمس والقمر، ويتفجّر بالحيوية في رحلة البحث التي لا تنتهي حتى عندما يَبلغ المصبَّ، لأنّه عندها يَبدأ في بحثٍ متجدّدٍ وبحثٍ جديدٍ نابعٍ من صُلب هيئتِه الجديدة! النهر الذي في داخلي منذُ أنْ تحرّر من قيود منبعِه استقبل الوجود، ونفضَ عنه القيودَ، والرياءَ، والتبعيّةَ، وتخيّرَ الأفعالَ، والتزمَ السؤالَ الذي فيه يقينُ الحقيقة، يسألُ من دون كللٍ، يحاورُ الكونَ يجادلهُ يناقشُهُ في ما يستقبلُهُ منه من ألحانِ حبٍّ وحنينٍ وشوقٍ وشجنٍ... نهري فراشةٌ تتقلّب في أكثر من وجهٍ في الوجود، عطرٌ يُرسَلُ من دون باعثٍ إلاّ النسيم، عِلمٌ يشتاقُه البحثُ والتقصِّي والتنقيبُ والتحقيقُ، عملٌ يتقنُ فنون البناء والعمران، أخوّةٌ تعشقُ الاختلاف وترى فيه سُبُلَ الكمال...
نهري أنا جميلٌ حتى بما فيه من صخورٍ وثعابين وتيارات، لأنّ نهري لا يسير إلاّ بأمرٍ منّي؛ إرادتي بحُرِّيتِها تسيِّرُه، وحرّيتُه بتلقائيتها تنشئ إرادتي، وتعلّمني أنْ لا حياةَ جمود، ولا استمرارَ جحود، ولا بقاءَ ثبات، ولا مُطلقَ يُحدُّ بقيود!
نهري أنا... يجري صافيًا متدفقًا فيّاضًا، يتسابق والزمن في نثر الزهور، وإنبات السنديان وأشجار الزيتون! نهري رحْبٌ عميق، جَليٌّ في غموضه، جَسورٌ في خشوعه، رحومٌ أمين!
نهري أنا... نهري أنا هو ما يجعلني في وسط كلّ ركامٍ أنا الإنسان!
... أخافُ أن أستنفذَ شعاعَ القمر وأنْ تسأَمي سماعي!»
«كيفَ أسأمُ سماعَ المحبة؟»
«المحبة حياة وارتقاء، وتطوّر ونموّ، وعطاء وامتنان، وتفكّر وخيَار، وشكٌّ وقرار، وتنوّعٌ واختلاف، وحركة ورقصٌ ودوران...»
«وماذا عن المنحوتِ المُزارِ؟»
«ابن عمّي قيّد ما لا يحيا بقيود، وعاكس فحوى الحياةَ، وألزمها ثوب الحداد، وكبّلها بالظلام الذي يخشى من شعاع القمر... لم ينجُ من بطشه أحد!»
«ماذا عنك؟ ألمْ تنجُ؟»
«قد أكون أنا الناجي الوحيد! كلّهم لهذا المنحوتِ عابدون، وبحارسه مسوقون، وللضوء فيهم قامعون، وللسؤال قاتلون!»
«لعلّهم خائفون!»
«الخوف سجنٌ أكبر من سجن الرخام! أسواره لا تنتهي ولا عودة للخائف منه!»
«ألا ترقُبُك عيناه كلّ ليلة بعد أنْ تبِعَكَ مرّةً وأعياهُ المسير؟»
«بلى!»
«إذًا هو يخافُك!»
«يخافني؟!»
«أجل! لو لَمْ يكنْ يخافُك لما تبعَك، لما تتبّع خطواتك ليتبيّن أي البقاعِ تسكُنُ إليها، لما سهرتْ عيناه وهو ينتظرُ عودتَك عندما يتثاءَبُ الفجر، لما حاول أنْ يَسرق شعاعَ القمر، ولَمَا قَطعَ السنديانَ وشرَّدَ أوراقَ الزيتون... لو لَمْ يكُنْ يخافُكَ لَمَا حاولَ أنْ يُرهبَكَ وأنْ يُخرسَك وأنْ يَقمَعك!»
«أَيخافُني وأنا فردٌ وحيد؟!»
«أجل! هو يخافُ النهرَ الذي في داخلك، يخشى أنْ يصبح طوفانًا يسقي الحريةَ في النفوس والتفكّرَ في العقول والسؤالَ في الشفاه والإرادةَ والإنسانَ!
يَسِمُكَ بالتكبّر والاستعلاِء ليُنفِرَ الناسَ منك... اِجعلْ لنهرِكَ سبيلاً يشقُّ سجونَه التي نصبَها، وحرِّرِ الكلمةَ، عندها تعودُ الحياةُ إلى كلِّ الأنهار!»
قالتْ كلمتَهَا وهمَّتْ بالرحيل وثوبها المنسوج من شعاع القمر يتمايل في خفّة...
«إلى أين ترحلين؟ لَمْ يتثاءبِ الفجرُ بعد!»
توقفتْ، استدارَتْ، ابتسمتْ، ثمَّ تابعتِ المسير...
«أألقاكِ غدًا؟!... هل سألقاكِ مُجدّدًا؟!»
«كيفَ لا تلقاني وأنا الكلمةُ التي في نهرِكَ والحرّية؟!!!»
وتثاءبَ الفجرُ عازفًا لحنَ أملٍ جديد!