أحد أهم فنون الحياة حسن الاقتناص، أو ما يسمى باغتنام الفرص، إنه الفن الذي يجيده الأذكياء والأقوياء، وعلى النقيض منهم قوم يجيدون التمني، وغالباً يتسمون بالضعف والكسل وكثرة الشكوى والسخط.


ثمة أناس مثابرون يصنعون من الوهم حُلمًا، ومن السراب أنهارًا جاريةً عذبة، ومن الإخفاقات أجنحةً يحلقون بها في سماء الطموحات، ومن أنصاف الفرصأهدافًا سامقةً لأنفسهم ولمن حولهم.

يبتكرون اللحظات السانحة، ويسعون نحوها، ولا ينتظرون حدوثها ..


هم أناسٌ لا تشغلهم أحاديث الناس، ولا تلفتهم لمزاتهم، ولا تنصرف أنظارهم إلا نحو ما هو لهم، وما بين أيديهم، يبنون سلالم النجاح بأنفسهم، بالنسبة لهم كلإخفاقةٍ إنما هي لَبِنَة من لَبِنَات بنائهم، وكل زلة قدم هي فرصةٌ لثباتٍ جديد.


تروقني فيهم الجدية التي لا تغادر هممهم، والسمو الذي لا يفارق طموحهم، والنبل الذي هو صراطهم المستقيم.

لا يتوقفون عن مكاشفة أنفسهم، ومراجعة أخطائهم.. إن سلكوا طريقًا وتعثروا لم يكابروا، بل عادوا أدراجهم وصحّحوا ما يلزم، ثم سلكوا طريقًا آخر أكثرإشراقًا وفسحةً ..


إن همّوا بأمرٍ وبدا أنهم غير موفقين فيه راجعوا حساباتهم،وقوّموا ما يمكن تقويمه

لا يشغلهم القيل والقال،ولا الندب ولا النواح،ولا إلقاء اللوم على الآخرين،كل ما يهمّهم هو أن يُعَبِّدوا الطرق التي يسلكونها لهم ولمن بعدهم،ولذا تجدهم أقلالناس حديثًا،وأحسنهم صمتًا،وأكثرهم عملًا وجهدًا


كثيرًا ما يصف الناس أحدهم بأنه ذو حظ، أو أنه نال ما هو فيه لأنه محظوظٌ بمن لديه وبمن حوله، وربما يصدق حديثهم أحيانًا، غير أني أرى أن الحظ ما هوإلا مكافأة لهم على جدّهم واجتهادهم وحرصهم على صنع الفرص واقتناصها.


نعم قد تنجح المصادفة مرةً أو مرتين، ولكن درب النجاح يتطلب جهدًا عاليًا، ومثابرةً عظيمة، وهمّةً قوية تحمل صاحبها إلى سماء النجاح.


علموا أبناءكم أن النجاح هو ثمرة الجد والاجتهاد والمثابرة، واغرسوا فيهم حب العمل والتفاني فيه، ولا تنسوا أن تزرعوا فيهم كره القيل والقال، وكثرة الغمزواللمز ..

إذ ما انشغل إنسانٌ بغيره إلا وانسدلتْ على عينيه غشاوة، وكست نفسه بالبلادة، فلا هو الذي اقتنص ما بين يديه، وعمل عليها، ولا هو الذي طوّر من نفسه ومنقدراته، ولا هو الذي نال ما ناله غيره.

في «الصناعتين» لأبي هلال العسكري أن أعرابياً وصف رجلا كثير التمني بقوله: «ذاك رجل يقطع نهارَه بالمُنَى، ثم يتوسَّد ذراعَ الهم»، أي أنه يُتعِب نفسهبالأمل لا العمل، ليكتشف في نهاية الأمر أن الآخرين حققوا النجاح، وهو لم يبرح خَيَالاته.

وهذا أحد الشعراء يؤكد أن الأمنيات بلا عمل رأس مال خاسر، يقول:

إذا تمنيتُ بتُّ الليلَ مغتبِطاً

إن المنى رأسُ أموالِ المفاليسِ

وما زال أهل الحزم والفهم يأملون ويعملون، وما النجاح إلا بذرة ترعرعت في كَنَف الأمل ثم العمل.

وأول شروط التوفيق وآخرها العمل بجد، وقد ورد في«نَفْح الطِّيب»للْمقَّري:«كان الطلبة ينتابون مجلس أبي علي البغدادي، واتفق أن كان يوماً مطرٌ ووحل،فلميحضر من الطلبة سوى واحد، فلمّا رأى الشيخ حرصه على الاشتغال وإتيانه في تلك الحال أنشده أبيات حوط بن رئاب الأسدي المكنى بأبي المهوِّش:

دَبَبْتُ للمجدِ والساعون قد بلغوا

جَهْدَ النفوس وألقَوا دونه الأُزُرا

وكابدوا المجدَ حتى ملَّ أكثرُهُمْ

وعانقَ المجدَ مَن أوفَى ومن صَبَرا

لا تحسَبِ المجدَ تمرًا أنت آكلُهُ

لن تبلُغَ المجدَ حتى تَلْعَقَ الصَّبِرا

هي معادلة حياة، فبمقدار ما يبذل المرء يتحقق له المراد، وما كانت الأمنيات تحقق مرادا، ولا تضمن زادا، حتى الدعاء وحده لا يطعم جائعا، ولا يعيد ضائعا،بل لا بد من سعي وجهد دؤوب

وهذا ما قاله رسول الله ﷺ للأعرابي الذي قال للنبي ﷺ بشأن ناقته: أعقِلُها وأتوَكَّل؟ أو أُطلِقُها وأتوَكَّل؟ فقال ﷺ: «اعقِلْها وتوَكَّلْ».

واستنبط بعض المفسرين من قوله تعالى: {وهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} أن بذل السبب لا بد منه، وأن الله قادر على أن يجعل الرطب أماممريم، ولكنه شاء منها أن تبذل الأسباب ..

قال أحد الشعراء:

توكّل على الرحمن في الأمرِ كُلّه

ولا ترغبَنْ في العجْز يومًا عن الطّلبْ

ألم تر أنّ اللَّه قالَ لمريمٍ

وهزِّي إليك الجذع يسَّاقطِ الرُّطبْ

ولو شاء أنْ تجنِيهِ من غيرِ هزِّهِ

جنتْهُ،ولكنْ كُلُّ شَيْءٍ لهُ سَبَبْ