لقد أمضى فولتير حياته وهو يشرح موقفه من الدين أو يحاول تفسير الدين وفهمه بطريقة أخرى غير التي كانت سائدة في عصره وفي أوساط رجال الدين. وكانت عائلته مسيحية تنتمي إلى المذهب الكاثوليكي كأغلبية الشعب الفرنسي، ولكنه إنفصل عن المذهب في ما بعد وأصبح العدو اللدود للأصوليين الكاثوليكيين.
والواقع أنه حاول كبقية الفلاسفة المعاصرين له أن يستخلص النواة العقلانية الموجودة في كل الأديان وليس في المسيحية فقط. ولكن هذه النواة مطموسة تحت أكداس من الأساطير والطقوس والشعائر والخرافات المضادة للعقل. والغريب العجيب هو أن فولتير كان يهتم بأديان أخرى غير دينه: كدين الهند والصين وفارس والإسلام بشكل عام. وكان يقرأ القرآن في الترجمة الفرنسية أو اللاتينية.
وكان فولتير يركز على الجانب الأخلاقي من الدين ويهمل ما عداه من عقائد خصوصية وطقوس. فالأديان جميعها تدعو إلى محبة الآخرين، وإحترام الجار مثلا، أو الصدق والنزاهة، وإتباع مكارم الأخلاق. ولكن المشكلة في نظره هي أن رجال الدين في عصره هم أول من ينحرف عن هذه المبادئ التي يعظون الناس بها.
يضاف الى ذلك أن الطقوس والشعائر والعقائد اللاهوتية تختلف من دين إلى آخر. ولذلك فإن فولتير يقلل من أهميتها، ويعتبرها نسبية لا مطلقة على عكس ما يزعم المتدينون من مختلف المذاهب. وبالتالي فالشيء المهم في المسيحية ليس طقوسها بحسب رأيه، وليس عقائدها الداخلية المضادة للعقل في معظمها، وإنما المبادئ الأخلاقية التي نصت عليها في الإنجيل. وقد شغل فولتير طوال حياته بدراسة الأديان المختلفة والمقارنة بينها، وهذا ما أدى إلى تحجيم أهمية المسيحية التي كانت تعتبر نفسها بمثابة الدين الكوني الوحيد الصحيح وبقية الأديان الأخرى باطلة.
وعندما لاحظ فولتير أن المتعصبين يؤلبون الناس بعضهم على بعض بإسم الدين أو الإختلاف في المذهب، ثار عليهم وابتدأت بينه وبينهم حرب شعواء لم تنته إلا بموته. ولقد نصب نفسه كبطل للتعددية الدينية أو المذهبية داخل المجتمع، ودعا الناس إلى التسامح لأنه لا يوجد مجتمع متجانس كليا من الناحية الدينية، وحتى لو وجد فإن الإنقسامات بين الناس سوف تحصل على أساس آخر كالإختلاف في الآراء أو في طريقة تفسير الدين وتأويله، وبالتالي فالتعددية شيء إجباري والإعتراف بها ضروري.
وقد إنتهى الأمر بفولتير إلى حد الدعوة إلى دين بدون عقائد لاهوتية أو معجزات أو طقوس، وقال بأن أي دين يدعو إلى الخير وينهي عن الشر هو دين صحيح، وأما ما عدا ذلك من طقوس وشعائر شكلانية فلا أهمية له. وقد لاحظ أن الكثيرين من المتدينين في عصره، بل على مدار التاريخ البشري، كانوا يمارسون الطقوس والشعائر وفي الوقت نفسه يدعون إلى كره أبناء المذاهب الأخرى وحتى قتلهم واستئصالهم لأنهم لا يمارسون شعائرهم تلك ولا يشاطرونهم عقائدهم اللاهوتية.
ولذلك حاول تنظيف الدين المسيحي من كل الشوائب والقشور والطقوس الخارجية لكي يتحول إلى دين عقلاني فقط: أي دين يأمر بالخير والمعروف، وينهى عن المنكر ويجعل من صاحبه مواطنا صالحا في المجتمع. فالدين هو المعاملة في نهاية المطاف بالنسبة إلى فولتير. وما عدا ذلك عبارة عن قشور لا أهمية لها. فإذا كنت أعامل الناس بطريقة حسنة وأخدم المجتمع والمصلحة العامة فأنا من أفضل المؤمنين.
ولذلك ركز فولتير على ما دعاه "هيغل" لاحقا بالدين الداخلي الجواني لا الخارجي الإستعراضي. وقال بأن المتدين الحقيقي هو ذلك الشخص الذي لا يؤذي جيرانه ولا يحقد عليهم لمجرد أنهم ينتمون إلى دين آخر غير دينه، أو مذهب آخر غير مذهبه. فإذا كنت صادقا، مستقيم السلوك فعلا لا قولا فقط، فإنك مؤمن حقيقي حتى ولو لم تصلي في الكنيسة مرة واحدة في حياتك. وكان يرى أن المبدأ الأساسي للدين العقلاني هو ذلك الذي يقول: "إفعل للناس ما تحب أن يفعلوه لك". فهل هناك من شخص يحب لنفسه الضرر أو الشر؟
ومعلوم أن فولتير كان يكره التعصب الديني كرها شديدا أو يعتبره عدوه الأول، وقد كرس كل حياته تقريبا لمحاربته. ولذلك أصبح إسمه رمزا لمناهضة الأصوليين المتزمتين في أي مكان كانوا ولأي دين انتسبوا. وخلد إسمه في التاريخ كمناضل شديد المراس من أجل حرية الفكر. وكان يقول جملته الشهيرة التي ذهبت مثلا والتي أسست العقلية الديمقراطية في الغرب: "قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد لأن أدفع حياتي ثمنا من أجل أن تقول رأيك".
المصدر: كتاب "معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا"، للمفكر والكاتب السوري "هاشم صالح" المقيم في فرنسا.
التعليقات