يُنسب إلى الشاعر الكردي الكبير جكرخوين أنه حين هاجر من سورية الى السويد بأنه قال: كانوا يقولون بأن هناك جنة و هناك جهنم وما كنّا نصدق ذلك، فهذه هي الجنة في اشارة إلى دولة السويد ورغد العيش فيها وهناك كانت جهنم أي سورية. أنا شخصياً أشك بأنه قد عنيّ ذلك حقاً، على أية حال الحلو والمر موجود في كل الأزمنة والأمكنة، وفي هذه الأيام كثر الحديث على مختلف الوسائل الاعلامية وخاصة الاجتماعية منها حول مسألة تنفيذ القانون الخاص بفرض الرعاية القسرية على أطفال بعض العائلات ذوي الأصول المهاجرة والشرق أوسطية المسلمة تحديداً، ونقل هؤلاء الأطفال للعيش لدى أسر بديلة، ويتم كل ذلك عن طريق استعانة موظفي دائرة الشؤون الاجتماعية "السوسيال" بقوة من الشرطة وبقرار يتم تنفيذه بشكل فوري يسمى اختصاراً "ل.ف.و" أي قانون الرعاية القسرية للأطفال واليافعين حتى عمر 21 عاماً وهذا القانون صدر منذ عام 1990 من أجل حماية الأطفال والشباب من أخطار ربما تكون محدقة بهم نفسية أو جسدية. هذا القانون يُخوّلُ اللجنة السياسية في البلدية المعنية بالتطبيق الفوري وفي سرية تامة ودون اخطار ذويهم حيث يصار الى أخذهم من المدارس أو دور الحضانة أو حتى من منازلهم أحياناً والى عناوين سرية لا يعلم بها الأهل وبعد ذلك تقوم اللجنة السياسية بكتابة طلب إلى المحكمة الادارية من أجل إصدار قرار حكم يشرعن بقاء الأطفال لدى الأسرة البديلة.
”LVU”
ونحن هنا نتحدث عن أعداد ضخمة وليست بعض الحالات الاستثنائية فعلى سبيل المثال قد تم تطبيق "ل.ف.و" القانون الخاص بفرض الرعاية القسرية على الأطفال واليافعين في عام 2020 على 3486 طفلاً في جميع أنحاء السويد ومن مختلف الاثنيات.
في السويد ثلاثة أنواع من المحاكم:
المحاكم العامة: وتشمل محكمة البداية ومحكمة الاستئناف ومن ثم المحكمة العليا وهذه هي المحاكم الاعتيادية المتعارف عليها والتي تبث في جميع القضايا الجنائية و(المدنية أيضاً التي الدولة ليست طرفاً فيها).
المحاكم الادارية: محكمة المقاطعة أو المحافظة، ومحكمة الاستئناف الادارية ومن ثم محكمة الحكومة، وهي المحاكم التي تبث في القضايا التي تكون فيها دوائر الدولة طرفاً في النزاع.
المحاكم المختصة: مثل محاكم سوق العمل، ومحكمة استخبارات شؤون الدفاع .
ما نحن بصدده اليوم هو الخلاف الذي يمس الشأن العائلي، و هذا الأمر يكون من اختصاص دائرة الشؤون الاجتماعية مدعومة باللجنة السياسية التي تترأس البلدية المعنية وبالتالي محكمة المقاطعة الادارية. بداية الأمر لكي يتدخل موظفي الأحوال الاجتماعية (السوسيال) في شؤون عائلة ما يفترض أن هناك مشكلة في العائلة قد تكون كبيرة وقد تكون طارئة ولكن دون وجود مشكلة ليس هناك تدخل للسوسيال في حياة العوائل أو الأفراد ولا تعتبر البطالة أو الحصول على المساعدات المالية بمشكلة اجتماعية ولا سبباً لتدخل الدائرة في حياة العائلة. كما أن السويد بلد فيه حرية العبادة لمختلف الأديان والمعتقدات ويعتبر التمييز على أساس العرق أو الجنس أو الدين جرماً يحاكم عليه القانون السويدي. تَدخلْ الهيئات الرسمية في خصوصيات الأسر تأتي كما أسلفنا بعد أن يتبين بأن هناك خلل ما في الوضع العائلي او أن هناك خطر من وقوع مخالفة كبيرة أو جرم ما، التعنيف الأسري مثلاً وسوء معاملة الزوج للزوجة أو الأطفال والى آخر ماهنالك. يتم اخطار دائرة السوسيال بشكل أو بآخر مثلاً من خلال تبليغ ربما من قبل دور الحضانة او المدرسة حسب الدلائل والمعطيات التي يتم استنتاجها من سلوك الأطفال أو وجود أثار تعنيف أو كدمات على الأطفال المعنيين أو ربما يكون الأمر أكبر من ذلك مثل وجود مشاكل الادمان أو نتيجة لحدوث جريمة ما في محيط العائلة. عند ذلك تصبح الدائرة الاجتماعية طرفاً أساسياً وتبدأ بفتح ملف لدراسة شاملة عن خلفية العائلة صاحبة الشأن وغالباً تذهب بعيداً في تحقيقاتها إلى ماضي الوالدين منذ مراحل نشأتهما الأولى وطريقة ارتباطهما وزواجهما ومن ثم الأولاد كل على حدة وحتى اللحظة التي استدعت تدخلهم. ما يحصل بعد ذلك أحياناً أن يذهب التحقيق بعيداً كل البعد عن السبب الأساس الذي استوجب تدخلهم أي ربما كان نوعاً من التعنيف الأبوي للأولاد أو بعض القيود التي يرى الوالدين بأنها سوف تحمي الأولاد وتجنبهم خطر الشذوذ والانحراف، أي مشاكل يمكن تداركها من خلال الحوار دون اللجوء إلى فصل الأولاد عن ذويهم وبالتالي تفسخ كيان الأسرة.
الطامة الكبرى هي في اختلاف الثقافات وعلى وجه الخصوص مفهوم العائلة والفرد ودور الأسرة والمجتمع في البلدان الشرق أوسطية والاسلامية بشكل عام مقارنة مع ما هو في السويد والغرب عامة. العائلات المهاجرة بشكل عام لديهم رغبة قوية في الحفاظ على علاقاتهم الأسرية وفي الوقت نفسه اكتساب ما هو مناسب من وجهة نظرهم من العادات والتقاليد السويدية في مواجهة الطرف السويدي الذي بدوره يتوقع إرادة الاندماج الكامل الطوعي من قبل اللاجئين الفارين من ظلم و جور أنظمة بلدانهم الأصلية لينعموا بالأمن والآمان في بلد الاغتراب.
الفرق هنا أن المهاجرين حقاً هربوا من جور حكامهم وأنظمتهم لكنهم ليسوا بهاربين من تقاليدهم ومعتقداتهم و قيمهم! وهذه المسألة بحاجة إلى زمن طويل على الأغلب عبر تحول تدريجي من جيل إلى آخر ولا تحدث بين ليلة وضحاها.
وبالتالي فالاختلاف في العادات والتقاليد بالاضافة إلى هاجس الخوف من االعنف والتطرف كثيراً ما يؤدي إلى اجتهاد موظفي "السوسيال" بخلق افتراضات ومخاوف جسيمة ومبالغ فيها بلا مبرر، فيها الكثير من التعميم المستند على أحكام مسبقة، فمثلاً الغالبية العظمى من الارتباطات الزوجية تحصل عن طريق الأهل والأقارب وليس بعد علاقة حب ومعاشرة تسبق الزواج كما هو دارج في الغرب وهذه الحقيقة وحدها قد تجعل هؤلاء الموظفين أن يضعوا اشارات استفهام كبيرة لوضع العائلة! ومن ثم كافة الظروف الأخرى التي يتميز بها مجتمعاتنا الشرقية من مأكل وملبس وحتى سلوكيات احترام الأكبر سناً وربما دور كل من الأب والأم في المنزل والترابط الأسري القوي على خلاف ما هو عليه في السويد وبقية الدول الغربية.
على أية حال عند الانتهاء من الملف يستعين موظفي الشوون الاجتماعية باللجنة السياسية في البلدية المعنية لتحويل الملف إلى المحكمة الادارية في المقاطعة لكي تنظر في القضية وبالتالي اصدار قرار حكم بالاستمرار على بقاء الأطفال لدى الأسرة البديلة أو الدار البديل. هناك مع الأسف الكثير من الحالات التي تعقد جلسة الاقرار في محكمة المحافظة ويكتفى بحضور موظفين من دائرة السوسيال والأولياء الجدد الذين يتم تعيينهم من قبل الدائرة نفسها ومحامي دفاع عن الأطفال أيضا يتم ترشيحه من قبل السوسيال وتعينه من قبل المحكمة أما الأهل الحقيقيون يصبحون بجرة قلم مجردون من كل حقوقهم الأبوية ولا يُعدُّ إعتبارهم طرفاً ، ويستبعدون تماماً عن مآلات الحكم وليس لهم حتى حق الحضور ولا حتى عن طريق وكيل قانوي بحكم أنهم ليسوا طرفاً فلا يحق لهم حتى توكيل محام لنقل وجهة نظرهم.
المشكلة تكمن في وجود ثغرات كثيرة تؤجج هذا الاختلاف ولو أن الجهات الرسمية تأخذ هذه الثغرات على محمل الجد لسوف تتمكن من وضع يدها على الجرح ومعالجته، وحتى وسائل الاعلام السويدية تستطيع طرح الأمر بنوع من الشفافية والحيادية من خلال الاستماع الى هؤلاء العوائل المتضررة ومن ثم ايصال أصواتهم وهموهم إلى الجهات المسؤولة بعيداً عن هواجس المؤامرات الخارجية من الاسلاميين المتطرفين على السويد في حملة دفاع ترويجية تذكرنا بسلوكيات الأنظمة المستبدة في بلداننا وكلنا نعلم بأن السويد ليست كذلك فلماذا هذه المغالطات؟ في كل شأن وكل حادثة وحين سيوجد هناك من يريد التصيد في الماء العكر.
السويد بلد ديمقراطي وجميل وفيه قانون يحمي الجميع، ولكن مع الأسف مثلها مثل أغلب بلدان العالم "الحلو ما بيكملش" كما يقول المثل المصري هناك كم كبير من الجهل بثقافة الآخر وهناك أيضا أفراداً يسيئون استخدام السلطة ونسبة لا بأس بها ممن يعملون وفق أحكام جاهزة مسبقة الصنع في الدوائر العامة والقانونية منها وعلينا أيضاً أن نأخذ بعين الاعتبار نمو التيارات اليمينية المعادية للاجئين وتأثيرها على التوجه العام في سياسة البلاد الداخلية وتدني مستويات قبول الآخر والتسامح، وأنا أقول كل هذا عن تجربة شخصية طويلة بعد أكثر من ثلاثين عاماً في السويد وأكثر من عشر سنوات منها كمترجم في مختلف المجالات الحياتية وموظفاً في مصلحة الحجز والسجون وأخيراً من بعد صدمة أليمة جراء حادث مأساوي كبير عصف بكل عائلتي منذ أكثر من عام مضى ولا زلنا غارقين في الألام والأحزان والشجون، لدرجة أن الاحساس بأن بلدان العالم كلها أصبحت مثل دولة غريبة ذلك الاحساس الذي عبرّ عنه "ادوارد سعيد" في "كتابه من المنفى" بات ينطبق عليّ بالحرف.
أنا أعتقد بأن جكرخوين رحمه الله كان يعني بأن الوطن جنة الله على الأرض، فالوطن الحقيقي هو بأهله وناسه وهم من يمنحونك الدفء والآمان و ليس فقط الوطن المكان.
التعليقات