لأمدٍ بعيد بعدَ تأليف أفلاطون مدينتَه الفاضلة ظلّت البشرية تتغنى بها وتستلهمها كحلمٍ منشود بعيد المنال، لكنّ اتجاهاتٍ فكرية ونقدية حديثة رأت في إقصاء أفلاطونَ للشعراء الذين لم يظهروا احتراماً كبيراً للآلهة تجنّياً على الفنون والحرّيات. كذلك لم يحبّ الفكرُ الماركسيّ تقسيمَ الطبقات في مدينة الحكماء، وقدّمَ يوتوبياه الشيوعية التي لم تنجُ أمامَ سحر وهيمنة الدولة الليبرالية الحديثة. في وقتنا الحاليّ تُعتبرُ وثيقة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أعلى ما وصلتْ إليه الحضارات تقديراً للبشر وإرساءً للمدنية، وتعدُّ السويد من بين أكثر الدول مراعاة للحقوق وتحقيقَ الرفاه والرخاء لشعبها ومَن يقيمُ على أرضها، وهذا ماجعلَ حادثة تظاهر عشرات العائلات من اللاجئين ضدّها الأسبوع الماضي على خلفية سحبِ دائرة الخدمات الاجتماعية (السوسيال) أطفالهم منهم قضية إنسانية جدلية قسمتْ الآراءَ حولها بشكل حاد بين اتهامات بالعنصرية للسوسيال ومغالاة في الدفاع عنه.

وبالعودة إلى وثيقة حقوق الإنسان، نجدها كفلتْ حقَّ الحياة الكريمة لكل إنسان دون تمييز بين دين أو عرق أو لون، وقد أولت الأطفالَ عناية خاصة، فحمتهم من العنف الجسدي والنفسي والإهمال، وحمّلت الأهلَ مسؤولية التربية وفقَ المعايير السابقة، فإذا بدرَ منهم تقصيرٌ أو مخالفة فإنّ السوسيال يسحبُ منهم أطفالهم، ويضعهم تحت رعايته إلى حين تبتّ المحكمة في أمرهم، فإنْ ثبتت الإدانة ينقل الأولاد إلى بيوت للتبني. وقوانين حماية الأطفال تشملُ المواطنين والمهاجرين واللاجئين، لكنّ انتشارَ فيديو على منصات التواصل الاجتماعي يصور معاناة عائلة سورية سُحب منها أطفالها الخمس كان الشرارة التي اندلعت النارُ منها على جبهات عديدة، ومازالت عشرات الفيديوهات المشابهة تفيض يومياً.

استقبلت السويد عدداً كبيراً من اللاجئين تمتعَ معظمهم بالحقوق المنصوص عليها، لكنّ هذا تقلّصَ بعد تدفّقَ 170 ألفاً معظمهم من سوريا عام 2015، وهو عدد ضخم بالنسبة لدولة عدد سكانها عشرة مليون، فلجأت الحكومة إلى وضعهم في مساكن جماعية بأحياء مهمشة، ممّا قلّلَ فرصَ اندماجهم بالمجتمع السويدي، وعزز انتشار الجريمة بينهم، وهذا بدوره أعطى الأحزاب اليمينية المتطرفة مبرراً لرفضهم وإنكار دورهم في تنمية البلد بحسب عبد الباسط سيدا في مقاله في القدس العربي (الجريمة المنظمة وتجمعات المهاجرين في السويد). كذلك أكّد توبياس إيتسولد خبير الشؤون السياسية في حوار أجرته دوتشيه فيله تحت عنوان (السويد ودّعت سخاءها التقليدي لتشدّد قوانين الهجرة): "أنّ عشرين بالمئة من السكان مهمشون في أحياء فيها مشاكل وتنعدم فيها الآفاق"، مشيراً أيضا إلى تصاعد هجمات العنف من اليمين الوسط بعد عام 2015.

التفاوت بين وضع المهاجرين واللاجئين قبل 2015 وبعدها قد يكون أحد التفسيرات لتباين المواقف، فالأهالي القادمون من بيئات تعطي سلطة كبيرة للأبوين، ولا ترى غضاضة في استخدام بعض أشكال التعنيف، لم يتدرّبوا على نمط التربية الحديثة، و لم يدركوا مدى تشدّد السويد في قانون حماية الطفل، وقد شجّعهم تفاعل الناس مع قصة السوري دياب طلال فتظاهروا في مدينة يوتوبوري ثم أمام البرلمان السويدي، لكنّ جهاتٍ إسلامية متشددة استثمرت الموضوعَ وقادت حملة إعلامية شرسة ضد السويد متهمة إياها بخطف أبناء العرب والمسلمين وتنصيرهم واستغلالهم، وهذا الخطابُ ليس مستغرباً من فئة ترفضُ العقلَ الغربيّ جملة وتفصيلا. إلّا أنّ فريقاً آخرَ علمانيّاً شكّكَ بكفاءة موظفي السوسيال وعنصرية بعضهم تجاه جميع اللاجئين على اختلاف دياناتهم وأصولهم، مشيراً إلى آلاف الأطفال المسحوبين منهم في السنوات الأخيرة، مطالباً بتحقيق استقصائيّ، ومنبّهاً إلى أنّ تنقّل الأطفال بين عدة مراكز تبنّي يترك أثراً أسوأ في نفسياتهم، هذا عدا ما يُثار من شكوك حولَ أهلية بعض المتبنّين.

أما السويد، الطرف الثاني في القضية، فقد أنكرت حقَّ الأهالي بالتظاهر، وحذرتهم من نشر الإشاعات ملوحة بتهم الإرهاب، لكنها خففت لاحقاً من لهجتها، وتوقع بعض مسؤوليها مناقشة الموضوع في البرلمان. وإذا ماتمّ هذا فأنه يبشّر بانتصار الديمقراطية. ومن الطبيعي في بلد لها تجربة راسخة بها أن تفسحَ المجالَ للحوار والمناقشة بدل التهديد والتخويف، وألا تتصرف بنفس طريقة الأهالي مع أبنائهم، ويفترض أن تعمل على معالجة أوضاع اللاجئين ومافيها من مشكلات قد تتطلّب تعديلا في خططها وبرامجها، خاصة وقد أقرّ البرلمان الأوربي منذ أيام بوجود عنصرية وكراهية للأجانب في الاتحاد الأوربي.

المؤيدون للسوسيال من المهاجرين واللاجئين طالبوا بطرد الأهالي المتخلفين والجاحدين فضلَ الحكومة بعدما استقبلتهم وآوتهم ومنحتهم حقوقاً كثيرة، وقادوا هجوماً مضادا اتهموا فيه العائلات المحتجة بالإرهاب هم وكل من تعاطف معهم أو انتقد السوسيال بكلمة، فكلّ "من يضرب ابنه هو مشروع جهادي وإرهابي" بحسب تعبيرات بعضهم. هذه المغالاة تشيرُ بوضوح إلى حالة الذعر التي تنتابهم لمجرد التفكير بأن السويد قد تعاقبُ الجميعَ وتحرمهم امتيازاتهم، وسواء اتخذ بعضهم هذا الموقفَ طوعاً أم بإيعازٍ من الحكومة السويدية فهو أيضاً ينذرُ بخطرٍ على صحة المجتمع الديمقراطيّ. و ردُّ الجميل لا يبرّرُ التبعية وإنكار الذات، فقد ساهمت الهجرة بتنمية القارة العجوز وضخّ الدم الفتيّ لها. في مقال لدانييل ديكسون ونيكلاس بولارد في رويترز، يقول توربيون إزاكسون المحلل في فوشيه نوردي "إنّ الهجرة تسهّل التصدي للتحديات السكانية المتمثلة في ارتفاع نسبة كبار السنّ". لا فضلَ للسويد إذن على اللاجئين، وهذا ما أقرّته الأمم المتحدة في إعلانها العالمي لحقوق الإنسان: " إنها حقوقٌ نتمتعُ بها جميعنا لمجرّد أننا بشرٌ، ولاتمنحنا إياها أيُّ دولة".



في النهاية، لا يمكن إنكار ما بلغته الدولُ الغربية في التنظيم وسيادة القانون، لكنّ المغالاة في التطبيق حوّلت الحياة إلى نمطٍ آليّ لايقيم وزنا للعواطف.. وإذا كانت غاية القوانين تنظّيم الحياة وجعلها أكثر عدالة وسعادة، فما الذي يحدد معاييرَ السعادة؟ أليست السويد من أعلى بلدان العالم في نسب الانتحار؟ وهل يمكن إعادة هذا إلى مناخها البارد الكئيب فقط كما يحاول البعضُ أن يبرّرَ؟ وهذا التشييءُ والتسليع للمجتمع والإنسان والقيم وجعله فوق النقد ألا ينذرُ بتآكل الحرّيات التي أقرّتها القوانين؟ ألا يشبه وإن بدرجة ما عالمَ جورج أورويل (1984)؟ وهل يمكن شراءُ أبوين جديدين للأطفال في اليوتوبيات الأخيرة؟