هذا المقال لن يكون كاملاً ما لم يعتبره القارئ امتداداً لمقال سابق بجريدة الوطن السعودية بعنوان (السعودية مملكة فوق المزايدة) يحاول فيه الكاتب مناقشة سؤال: كيف نستوعب تاريخ (التوحيد السياسي) الذي قد يخسر فيه البعض (معناه الضيق في ترجيح سردية الدعوة على سردية الدولة) لكنه يكسب فيها معنى (المواطنة) الواسع والممتد بحجم دولة عضو في الأمم المتحدة، تشكل معظم أرجاء جزيرة العرب.

هذا المعنى من (التوحيد السياسي) الذي سرنا فيه وبه إلى مصاف (الدول العشرين) لم يأت من فراغ، بل جاء من خلال أسرة تمثل في نواتها (كرامة العربي وحريته واستقلاله) بالمعنى القومي ضد العثمانيين، فقبل ثلاثمئة سنة جاء مؤسس الدولة السعودية الأولى الإمام محمد بن سعود كقائد لثورة الاستقلال القومي ضد الاستعمار التركي تحت غطاء ديني، فالجذوة القومية العربية داخل الإمام محمد بن سعود وجدت وقودها في الدعوة للسمو الروحي على الخرافات والبدع، وما يستتبع ذلك من هدف حقيقي نحو الاستقلال القومي، وفي هذا تفسير لموقف محمد بن سعود الداعم للدعوة بخلاف غيره من الزعماء المتعاطفين معها دون الوقوف لأجلها، فالتراكم التاريخي الطويل عبر القرون في قلب الجزيرة العربية أنجب تغيراً نوعياً ظهر أكثر جلاءً وأكثر وضوحاً في الدولة السعودية الثالثة بصفتها (مملكة عربية سعودية)، ولهذا فما قدمه محمد بن عبدالوهاب ليس إلا غطاء دينياٌ فقط لنزعة الاستقلال القومي النابتة في قلب جزيرة العرب ضد الاستعمار العثماني، مهما حاول (مؤرخو الدعوة) التغول على (مؤرخي الدولة) بل إنَّ (بعض مؤرخي الدولة من حاملي الشهادات العليا قد استسلموا لسردية بعض أنصاف المتعلمين من مؤرخي الدعوة) فما جاء به محمد بن عبدالوهاب (1115/1206هـ) الموافق (1703/1791م) ليس جديداً أو استثنائياً لتدور عليه سردية التاريخ السعودي بل سبق وأن عرفه آئمة اليمن في مذهبهم الزيدي وعرفته مصر في أحد مساجدها عبر واعظ رومي، فبالنسبة لليمن أورد الإمام محمد بن علي الشوكاني (متوفي 1250هـ) في كتابه (الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) جهود آئمة الشيعة الزيدية في ذلك وآخرهم الإمام مهدي العباس بما نصه: (وقد تكلم جماعة من آئمة أهل البيت رضوان الله عليهم ومن أتباعهم رحمهم الله في هذه المسألة بما يشفي ويكفي ولا يتسع المقام لبسطه وآخر من كان منهم نكالاً على القبوريين وعلى القبور الموضوعة على غير الصفة الشرعية مولانا الإمام مهدي العباس بن الحسين بن القاسم رحمه الله، فإنه بالغ في هدم المشاهد التي كانت فتنة للناس وسبباً لضلالهم وأتي على غالبها ونهى الناس عن قصدها والعكوف عليها وكان في عصره جماعة من أكابر العلماء توسلوا إليه بوسائل وكان ذلك هو الحامل له على نصرة الدين بهدم طواغيت القبوريين) وترجمة الإمام مهدي العباس ملخصها (الملقب بالمهدي لدين الله المولود عام 1131هـ من بني الهادي إلى الحق إمام زيدي من اليمن، ولد في إب، وقام بالأمر بعد وفاة أبيه المنصور بالله سنة (1161هـ) في صنعاء... استمر إلى أن توفي بصنعاء عام 1189هـ) أما في مصر فقد أورد الجبرتي في تاريخه عن أحداث سنة (1123هـ الموافق 1711م) ما نصه: (وفي شهر رمضان قبل ذلك جلس رجل رومي واعظ يعظ الناس بجامع المؤيد، فكثر عليه الجمع وازدحم المسجد، وأكثرهم أتراك، ثم انتقل من الوعظ وذكر ما يفعله أهل مصر بضرائح الأولياء، وإيقاد الشموع والقناديل على قبور الأولياء، وتقبيل أعتابهم، وفعل ذلك كفر يجب على الناس تركه..... واجتمع عليه من العامة زيادة عن الف نفس، ومرَّّ بهم من وسط القاهرة...) ولهذا فالسؤال ليس سؤال الدعوة التي ظهرت أنساق تشبهها لدى آئمة الشيعة الزيدية في اليمن ولدى الواعظ الرومي في مصر، ولم تصنع فرقاً في حركة التاريخ، بل السؤال لماذا كان محمد بن سعود ولم يكن حاكم العيينة مثلاً، لماذا قرر الأول وعجز الثاني رغم محبته لابن عبدالوهاب، لماذا استمرت أسرة (آل سعود) تراكم تجربتها التاريخية بإصرار استثنائي قدمت في سبيله الدماء والمنفى، إنها ثنائية (الاستعداد السياسي الأصيل والفرصة التاريخية) التي عجز عن فهمها معظم كاتبي التاريخ، فجيروها لصالح الدعوة على حساب الدولة، فالاستعداد السياسي يكمن في (شوكة الحكم والسياسة) في بيت (آل سعود) دون غيرهم باتجاه تراكمي لاقتناص الفرصة التاريخية طيلة ثلاثة قرون لتتجلى العبقرية الخالصة في (عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود) وحقيقة الدولة الحديثة من خلال اسمها المعترف به في كل المحافل الدولية العالمية (المملكة العربية السعودية).