لا يشك أحد في تقديري الشخصي ومحبتي وإعجابي بأغلب ما أبدعه الراحل الكبير مظفر النواب. ولكن الحق والعدل يفرضان علينا أن نتدبر التاريخ.

فمن المثير للاستغرب أن شاعرنا المحبوب، وهو اليساري الأممي الإنساني الذي هزته أحزان المواطن الفلسطيني ودفعت به إلى شتم جميع الحكام العرب، "لا أستثني منكم أحدأ" لأنهم لا يَشهَرون سيوفهم لتحرير (عروس عروبتهم)، قد سكت، تماما ونهائيا، عن وطنه العراق، ولم يهبط عليه الوحي الشعري منذ أن وقع الغزو الأمريكي ثم الاحتلال الإيراني، وإلى أن مات.

وكان محبوه وعشاق شعره الثوري، وليس العاطفي فقط، ينتظرون منه أن يكتب لهم شيئا بنفس اللغة السابقة التي كتب بها عن الاغتصاب الصهيوني الإمبريالي لفسلطين. خصوصا وأن شعبه العراقي قد أصبح أكثر من الشعب الفسطيني حاجةً إلى أن يُعينه، ولو بقصيدة واحدة، على محاربة الديكتاتورية الجديدة، ورفض الرجعية والفساد، وتحديداً، معارضة العملية السياسية المغشوشة التي فرضها ثلاثة يفترض أنهم من أعدى أعداء شاعرنا الراحل الكبير، عقائديا، ومبدئيا يساريا، وإنسانيا، وهم الحاكم الأمريكي بول بريمر والمرجع السيستاني وإيران.

ولهذه الجزئية من سيرة الراحل الكبير تفسيرات ومبررات، منها أنه لم يكن من خصوم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي المشاركة في حكم العصبيات الطائفية والعنصرية والمناطقية. كما لم يكن، كما يبدو، معترضا على دخول رفيقه سكرتير اللجنة المركزية للحزب، حميد مجيد موسى، إلى مجلس الحكم، ومناصرته لنظام المحاصصة الذي كافأه فأعطاه وزارة الثقافة.

وليس معقولا أن شاعرنا الكبير لم يسأل نفسه عن سر قبول المتدينين الكبار، عبد العزيز الحكيم وابراهيم الجعفري ومحمد بحر العلوم، بأن يكون حزبٌ شيوعي علماني (ملحد) شريكهم في معارك التحضير لما بعد سقوط نظام صدام حسين برعاية أمريكية وإيرانية وسورية معلنة.

وفي مؤتمر المعارضة العراقية في بيروت 1991 عارض إسلاميون شيعة كبار مشاركته، في بداية المؤتمر، لكنهم سكتوا ووافقوا على قول محمد بحر العلوم "إننا في حاجة إلى جميع أبنائنا الشيعة، حتى لو كانوا علمانيين، كأحمد الجلبي وأياد علاوي وحميد موسى.

ويقال، والعهدة على الراوي، وعلى إبنة الراحل مظفر التي قالت، بعظمة لسانها، إن والدها كان على علاقة ممتازة بابراهيم الجعفري وعادل عبد المهدي، وأكدت أنهما عرضا عليه مكافآت ومعونات، فاعتذر، ولكنه أبقى علاقته الحميمة معها حتى النهاية، من باب الوفاء ورد الجميل.

وليس خافيا ما ربط بينه وبين آل الأسد من ود عميق، رغم علمه بأنهم حلفاء حميمون لدولة ولاية الفقيه المتخلفة.

وقد تكون هذه الدوافع، كلها، هي ما جعله يميل إلى الصمت عن قادة العملية السياسية العراقية، وعن فسادهم، وعن تخابرهم مع الأمبرياليين الأمريكان، ومع الحكام الإيرانيين، ومع الصهاينة الذي اغتصبوا عروس عروبتهم ولم "تسكت مغتصبة"، بل لم يقل أي شيء ولو تلميحا عن نظام حافظ أسد ثم وريثه بشار، ولا عن إيران وعن نظرية الخميني القائلة بتصدير الثورة الإسلامية الطائفية العنصرية إلى دول الجوار.

ومؤكدٌ أن شاعرا ومثقفا ومناضلا بحجم مظفر النواب لم يكن قد خفيت عنه حقيقية أن وطن (الريل وحمد) و(القطا الحدر السنبابل) تحكمه شلل الجهل والضلال والخرافة والاغتيال وقتل المتظاهرين.

شيء آخر. إنه، ولا شك، يعلم بأن الانتخابات التي أجازت لهم حكم البلاد والعباد، برضا المرجعية وإيران وأمريكا، لم تكن أكثر من حفلات ترفيهية تنكرية من نوع مبتكر وجديد.

وذلك لأنه، إنصافا، أكثر شاعر عراقي غاص في أعماق الطبقة الشعبية وخبر أسرارها وخفاياها. وعلى ذلك فمن تحصيل الحاصل أن يكون أكثر من غيره معرفة بأن الذين صوتوا لهم لم يكونوا قادرين على تحكيم مصالح الوطن العليا على غيرها، ولا على اختيار الحاكم الأصلح الأكثر قدرة على تحقيق هذه المصالح وحمايتها من العابثين والطامعين والمغرضين.

فقد كانوا ثلاثة. الأول ناخب أميٌ لا يقرأ ولا يكتب وينوب عنه في ملء استمارة الاقتراع واحدٌ من حماية السيد. والثاني جاهلٌ متعصب ضللوه وغسلوا مخه الصغير، دينيا ومذهبيا، فصار يبصم كما تريده المرجعية، دون كلام. والثالث جائعٌ كان يبحث عن فرصة لكسب ما يعينه على إطعام أسرته الجائعة، بأي ثمن، حتى لو كان ببيع رأس الوطن العزيز.

ثم مات شاعرنا الكبير في الخليج. وهنا تبدأ المهزلة. ولو قدر لمظفر النواب أن يمد رأسه من نعشه لصرخ بهم


" لست خجولا حين أصارحكم بحقيقتكم
إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم".

فقد حولوا جنازته إلى ساحة حرب لتصفية حسابات أحزابهم وشللهم ومعسكراتهم تطايرت فيها الأحذية والحصى والأحجار على مواكب الكبار الذين أرادوا مجاملة الجماهير، وتطييب خاطرها بحضورهم الشخصي لتوديع شاعرها االذي تحبه بلا حدود.

غامر أحدهم بالحضور، فسارع خصومه إلى جعله شيطان الخصوم وأمروا عبيدهم ومحاسيبهم برجمه.

والملاحظ أن القادة الإطاريين والصدريين الكبار، ومنهم أصدقاء شخصيون للشاعر مظفر النواب من أيام المعارضة السابقة ومهرجاناتها الشعرية في السيدة زينب، كنوري المالكي وبيان جبر صولاغ وممثلو جلال الطالباني ومسعود البرزاني والحزب الشيوعي العراقي، لم يتجرأ أي واحد منهم فيشارك، شخصيا، بحفل التشييع، خوفا من الجماهير المتوثبة.

فهؤلاء الزعماء القادمون إلى السياسة من دكاكين العطارة والسباكة وقدور الكبة وإبر الخياطة وقطع غيار السيارات، أدركوا، من تجارب لهم سابقة في البصرة والناصرية وبغداد والحلة والنجف وكربلاء، أن ظهرور أكبرهم أو أصغرهم بين حشود الجماهيرالعريضة وجها لوجه مغامرة خطرة قد تكون مميتة، وما حصل لزميلهم في جنازة النواب سيكون في انتظارهم في أية جنازة أخرى قادمة.

وذلك لأنهم يعلمون علم اليقين بأن فواتير حسابهم لدى شعبهم قد تجاوزت حدود المحتمل والمقبول والمعقول، وأن أحذية الغاضبين وأحجارَهم وهتافاتهم (مظفر للشعب مو للحرامية) لهم بالمرصاد، خصوصا وأن الجياع والعاطلين عن العمل والمنتهَكة كراماتُهم والمسروقة أرزاق عيالهم باسم الدين والطائفة وعلي والحسين أصبحوا يُعدّون بالملايين.