أيام قليلة وينتهي أسوأ "العهود" الرئاسية في لبنان! فماذا نحن فاعلون؟ أيام قليلة، ولا تزال مختلف القوى السياسية في البلاد تتعاطى وكأن الاستحقاق الرئاسي لن يتمّ في موعده، فحتى اللحظة لم تكشف أي من القوى عن أسماء مرشحيها باستثناء ترشح الأستاذة "تريسي شمعون" عن حزب الوطنيين الأحرار، فيما ارتأت بقية القوى أنه من المبكر الدخول في موضوع التسمية قبل توحيد المعايير والاتفاق على الخطوط العريضة حول شخص الرئيس المقبل. وسؤال محوري يطرحه كل لبناني: ما هو مصير الفراغ وماذا أنتم منتظرون؟ وماذا انتم فاعلون؟

وكأن لبنان لم يكفه ما عاناه الشعب من دفع فواتير حرب الآخرين على أرضه، وكأننا لم نستفد من دروس تاريخنا يوما! لماذا لم تشكل الحروب الداميّة التي سببتها التبعية توبة حضارية؟ وكيف لنا ان نفهم أو نقبل في أن إرهابيي الأمس من ميليشيات متنوعة أصبحوا شركاء فيما يسمى زورًا "حكومة توافق وطني"؟

وفي وقت يغرق لبنان بالمآسي والأحزان بدءا من قتلى المرفأ علاوة على آلاف القتلى خلال العقود المنصرمة، وآلاف النازحين والمشردين والأطفال اليتامى والأمهات الأرامل وانتشار الأوبئة والأمراض وحالات الاتجار بالبشر والمخدرات، وصولا إلى الفساد الكاسح الذي لم يشهد له التاريخ نموذجا كهذا من قبل، ومرورا بتدهور كافة الخدمات وانعدام الأمن وانهيار تام للبنية التحتية ودمار شبه تام. إنها نكبة لم تشهد لها البشرية مثالا من قبل، إنها كارثة انسانية وجريمة تاريخية عظمى!

لبنان في قلب الانهيار وفي الدرك الاسفل الذي لا نهاية له ولا قرار، ويتجه بخطوات حثيثة نحو "الجنون" التام، فيما شهدت الاسابيع الأخيرة سجالات حول "الرئيس الجديد المنتظر" ولا زالت الشعارات الطائفية والحزبية تُرفع، فالمراقب للمشهد الاعلامي يرى بسهولة تحلل دور الدول الرسمي لصالح الميلشيات، لا سيما الميليشيا المسلحة الاقوى "حزب الله"، التي تفتخر انها تُسخر مقدرات البلاد لمصلحتها بل والاسوأ تسخير ذلك لمصلحة "ايران"، فيما معظم الفرقاء الباقون لا يشكلون على الحقيقة ثقلا، كما أن بعضهم ينتظر دعما من القوى الإقليمية والدولية، وينتظرون بترقب إلى "الحل المستورد" وكلمة السرّ حول "اسم الرئيس" الذي عليه ان "يسكّج" المرحلة المقبلة و يرقّع بخيطان الطائفية منظومة الخراب المهترئة.

فالدول الكبرى اليوم منشغلة بأزماتها الجادة في ظل الاحتقان الحقيقي بين الدول النووية والردع المتبادل بينها، وتداعيات الحرب الروسية على اوكرانيا مرورا بالمناورات العسكرية في شرق آسيا، علاوة على الأوضاع المضطربة بين أذربيجان وأرمينيا وتموضعات السيطرة على مصادر الطاقة وامدادتها في القوقاز. فالقوى الدولية اليوم لا مكان للبنان في حساباتها، كما أن الدول الاقليمية والخليجية المجاورة للبنان - والتي كانت تدعمه فيما مضى - قد ضاقت ذرعًا به وبمشاكله ونفذ صبرها من الفرقاء التي دعمتهم و لم يحققوا على ارض الواقع أي نهوض او تقدم يُذكر.

فهل ينتظر اللبنانيون من الخارج ان يتم التوافق على تسمية رئيسهم و"مخلّصًهم" المنتظر؟

أملنا أن تُطوى النزاعات الطائفية والعرقية والمذهبية وغيرها في كل مكان، وان يتوقف "القتال" الفعلي والمعنوي الى غير رجعة، تمنياتنا ان يُطوى بازار المبارزات الكلامية والتخوينية الى الأبد؛ حلمنا ان نرى بلادنا "مستقلة" عن كل تبعية، أما آن الأوان للتوقف برهة والنظر الى حجم الخراب الذي طال كل شيئ وتوقّفت فيه كافة الخدمات وصولا لانقطاع الماء والكهرباء بشكل تام، كما سُرقت أموال الشعب ومدخراتهم كلها "حرفيًّا"، و طارت الثروات البيئة من "المياه" و"الغاز" و"النفط" بصفقات "العصابة" وهدمت البلاد وانهار الاقتصاد، والاهم من ذلك كله خسرنا الإنسان!

فما هو مصير تلك الأجيال التي ولدت تحت القصف وعاشت تحت النيران وترعرت في ظل المآسي وتتحمل تبعات كل فراغ؟

للأسف، ان ما يحصل الآن وهو نتيجة استبداد أكثر من نصف قرن من الطائفية السياسية والمحاصصة المذهبية وعقود من الفوضى الأمنية مما ينذر بأن لبنان لن يخرج من اتون متقد تحت الرماد، وهو الآن كما كان عبر التاريخ لم يتحرر يومًا، لا خلال مرحلة الاحتلال والانتداب، ولا في مراحل ما عرفت بـ"الاستقلال" حيث تنامى الفساد والاستبداد.

فلبنان عانى من حرب أهلية مريرة وناهض الاحتلال الاسرائيلي والوصاية السورية، وقد غادرت إسرائيل لبنان في مايو أيارعام 2000 وغادر الجيش السوري لبنان في ابريل نيسان 2005، (وكل ذلك حصل بقرارات دول كبرى)، بيد ان عقول الشعب لم يغادرها الاحتقان الطائفي والمذهبي، والزعماء لم تغادرهم التبعية للجهات الخارجية، مما أدى الى اصطفاف سياسي شرخ البلاد الى فسطاطين كل قوم بما لديهم فرحون! فيما يُداس فيه من لا "سند سياسي له" وتهدر كرامته، في وقت يعم الفساد معظم المؤسسات العامة وكافة القطاعات.

فسطاطين لا يشبهان التنوع الحزبي في الدول الديموقراطية، فسطاطين يكاد يكون ممنوع فيهما وجود عقلاء لا يدَّعون وصلا بأحد، فسطاطين يغيران موقفهما ويميلان كلما مالت القوى الخارجية، فلا يتنازل أحدهما للآخر الا عندما ترجح كفة تبعية الفسطاط الآخر اقليميا!

فماذا انتم فاعلون؟ وهل الوفاق ممنوع على ابناء الشعب الواحد؟ وهل حالة الاكثرية والأقلية وانعكاساتها الكيديّة في كل مرة يجبر المواطن على ان يدفع ثمنها؟

وعندما تلوح المؤشرات الايجابية لتنامي فرص الانفراج، سرعان ما تظهر الى الواجهة رسائل أمنية توحي بما لا يدع مجالا للشك بأن هناك من يحاول اغتيال العقلانية، فيما تكثر الترجيحات بأن خارطة بعض الدول الحالية معرضة لاعادة التشكيل والدمج والتقسيم وان الامر برمته رهينة اتفاقات دولية توزع من خلالها الحصص الاقتصادية والاستثمارية.

التقارير الاعلامية الدولية تصف حالة الدول "الصغيرة" بالرمادية فالحكومات مرتبكة وعاجزة، وتسعى لترسيخ الفراغ الامني وتحقيق التوازن السياسي في وقت تترنح في إدارة شؤون المواطنين.على أية حال أيا كان من يريد تخريب الأواضاع المهترئة أصلا، فإن الشعب البناني مطالب وأكثر من أي وقت مضى، برصّ صفوفه والوحدة ضدّ اي محاولة لجره الى مزيد من الخراب.

فكل عنف مهما كان مصدره مدان وكلّ سلاح مهما كانت ذريعته خطر وهو مدان. واولى درجات الحكمة الوعي؛ وتمام الوعي بأنه لا يمكن لأحد ان يضع البلاد على سكة الانقاذ إلا أبناؤه الذين يرفضون أن يكونوا أدوات لأي جهة "ميليشيوية" داخلية تريد ان تجيّر الاحداث لدعاياتها، او خارجية تريد ان تحقق مصالحها.

فمتى يعود الشعب الى رشده؟! ومتى يعود المواطنون الى صوابهم؟!

لقد اختبروا وعانوا من الحروب، كما عانوا من الفساد السياسي والاستبداد، ويعانون بشكل مريع من الاوضاع الاقتصادية المتدهورة، فهل قدرهم ان يدفعوا مزيدا من الأثمان الباهظة لارضاء "زعماء الطوائف" و"أرباب المذاهب" وغرور أصحاب المناصب من ورثة الكراسي وغيرهم. أما آن لنا ان نعود لرشدنا ونتعلم من تجاربنا ونكف عن الاصطفافات والخطابات، و نقدم شبابا من اصحاب الكفاءات وذوي العقول النيرة الذين لم يعد يجدوا مكان لهم في بلادهم فهاجروا الى بلاد تقدر الابداع وتحترم الانسان!

قد يبدو حلما صعب المنال فلا زال جزء كبير من اللبنانيين ينتظرون تداعيات الاوضاع الاقليمية ورياح التغيير الدولية، ولا زال كثيرون يرون في الزعماء ملاذهم الاول والأخير!

وتصبحون على "رئيس" بعد ان طار الوطن!