من الأمور الحيوية المطروحة على الساحة الدولية في المرحلة الراهنة ما يتعلق بموقف قوى كبرى مثل الصين حيال مآلات الإتفاق النووي الإيراني، وهل مصلحة بكين تكمن في التوصل إلى تفاهمات لإحياء الإتفاق؟ أم أنها تفضل أن يكون الفشل مصيراً للمفاوضات الدائرة، والتي توشك على الوصول إلى خط النهاية بغض النظر عن النتائج؟

بكل تأكيد فإن تحليل الموقف الصيني يبدو محكوماً بحسابات إستراتيجية معقدة للغاية، وهنا بإمكاننا التطرق إلى سيناريوهين أولهما يتعلق بحالة بقاء الوضع كما هو عليه وفشل المفاوضات واستمرار العقوبات الأمريكية وربما تصاعدها ضد إيران، وهذا السيناريو يتماشى مع مصالح بكين الإستراتيجية بشكل أكبر نسبياً سواء على الصعيد النفطي أو الإستراتيجية لأن بقاء إيران في حالة عزلة عن الغرب يعني إنخراطها أكثر في التحالف مع الصين وروسيا وارتمائها في أحضان المنافسين الإستراتيجيين للولايات المتحدة، وهذا بحد ذاته وضع مثالي لبكين وموسكو، وهو مايفسر حصول إيران على العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي للتعاون خلال قمة سمرقند التي عقدت مؤخراً، والسعي للحصول على عضوية مجموعة "بريكس"، التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، حيث تقدمت طهران بطلب منذ يونيو الماضي، ويتوقع الموافقة عليه.

وعليه، فإن بقاء إيران منبوذة أمريكياً، يعني مضي طهران في سياسة التطلع إلى الشرق، وتعزيز شراكتها الإستراتيجية مع بكين، حيث وقع الجانبان إتفاق شراكة مدته 35 عاماً، يضمن تدفق الإستثمارات الصينية على مشروعات إيران في المجالات كافة، فضلاً عن الإتفاق على إجراء تدريبات عسكرية مشتركة والتعاون في تطوير الأسلحة وتبادل المعلومات الإستخباراتية وغير ذلك.

وبالإضافة إلى ماسبق فإن بقاء العقوبات الأمريكية المفروضة ضد إيران، يعني إستمرار الصين في إستيراد النفط الإيراني بأسعار تفضيلية وتعزيز مخزونها الإستراتيجي، حيث يمثل النفط الإيراني نحو 6% من إجمالي واردات الصين النفطية، لأن بكين تعد الدولة الوحيدة القادرة على مواصلة شراء النفط الإيراني بالرغم من العقوبات الأمريكية، ما يعد مصلحة مشتركة للجانبين الإيراني والصيني على حد سواء، وهو مايعزز نفوذ الصين في منطقة الخليج العربي ويضمن كذلك دوراً إيرانياً في منطقة المحيطين الهندي والهادىء ولو من خلال الشريك الصيني، حيث يشار إلى المناورات المشتركة التي أجرتها البحرية الصينية والإيرانية في المحيط الهندي أوائل العام الجاري، كما شاركت الدولتان في مناورات ثلاثية بانضمام روسيا في المحيط الهندي أيضاً. هذا السيناريو الذي يحقق مصالح الطرفين، الإيراني والصيني ربما يصطدم ولو قليلاً بمصالح الصين مع دول مجلس التعاون، وهي مصالح ضخمة ويصعب أن تفرط بكين فيها، لذا فإن هذه المصالح ربما تعد أحد كوابح انخراط الصين في دعم أي خطط توسعية إيرانية تغضب دول "التعاون"، حيث يفترض أن تنظر بكين لعواقب التجاهل الأمريكي لإستحقاقات الشراكة مع حلفائها الخليجيين، بمعنى أن الصين لن تكرر بالتأكيد الخطا الإستراتيجي في الأمريكي في تجاهل مصالح الحلفاء الخليجيين والسعي للتقارب مع طهران ولو على حساب هؤلاء الحلفاء. وهنا يعتقد أن بكين ستمضي في تعزيز مصالحها الاستراتيجية مع إيران من دون التأثير سلباً في علاقاتها المتنامية مع شركاء دول مجلس التعاون، وذلك رغم أن طهران ستحاول بكل الطرق الإستفادة من شراكتها مع الصين في توسيع نفوذها إقليمياً، لاسيما من خلال نقل التكنولوجيا وتطبيقاتها العسكرية.

السيناريو الثاني يتعلق بالتوصل إلى الساعات الأخيرة إلى تفاهمات لإحياء الإتفاق النووي، وهذا بحد ذاته قد يكون خبراً غير سعيد لبكين، ولكنه لا يخلو من فوائد إستراتيجية مهمة، إقتناعاً من الصين بأن الإيرانيين لن يغيروا توجهاتهم الإستراتيجية حيال الغرب، على الأقل خلال المدى المنظور، ولن يغامروا بالإرتماء في أحضان واشنطن والتضحية بكل مصالحهم مع الصين وروسيا. الواقع يقول أن رفع العقوبات المفروضة على إيران ـ وفقاً لهذا السيناريو ـ يعني تدفق الشركات الصينية بكثافة على السوق الإيراني، وهو الأمر الذي لا يحدث حالياً خشية التعرض للعقوبات الأمريكية. في مقابل ماسبق فإن إنفتاح إيران على الغرب وتعدد خياراتها الإستراتيجية ربما يلعب دوراً في إحداث تغيير ولو نسبي في حساباتها المصالحية، بحيث تتجه للحد من إندفاعها نحو الصين وروسيا حفاظاً على مصالح واعدة مع الغرب، الذي لن يتوانى في حالة كهذه عن إغراء طهران بكل السبل لإستقطابها بعيداً عن الدوران في الفلك الروسي ـ الصيني.

ورغم أن هذا السيناريو لا يمتلك أرجحية في ظل توازنات القوى القائمة راهناً، ولكنه قد يكون مطروحاً بالفعل للنقاش بحسب مسار العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، بمعنى أن حسم الصراع ميدانياً لمصلحة الرئيس بوتين له حسابات إيرانية، والعكس له حسابات مضادة، لأن ما يحدث في أوكرانيا حالياً يمثل أحد محطات تحديد هيكل النظام العالمي المقبل. ثمة نقطة أخرى مهمة في هذا السيناريو تتعلق بموقف إسرائيل، التي تظل رقماً صعباً في حسابات الصين تجاه إيران، فإسرائيل لن تقبل تنامي التعاون الصيني ـ الإيراني في ظل حالة التوتر القائمة مع طهران.

وأعتقد أن الصين ربما تفضل مصالحها مع إيران على مصالحها مع إسرائيل لاسيما إذا نشأت حالة من الحوار عبر ضفتي الخليج العربي وقامت طهران بتحسين علاقاتها مع جوارها الخليحي، حيث يصبح الوزن النسبي لمصالح الصين مع منطقة الخليج ككل أكبر من مصالحها مع إسرائيل لاسيما إذا أستمر التوتر في علاقات بكين وواشنطن، وتحولت العلاقات الدولية إلى حالة إستقطاب حادة يصعب معها بناء توازنات مصالحية كما هو حاصل حالياً.