تّعرّف الهوية بأنها مجموعة الأوصاف والسلوكيات التي تميز الشخص عن غيره، فهي تمثّل تعريف الإنسان نفسه فكراً وثقافةً وأسلوب حياة، وكما أنّ للإنسان هوية كذلك للمجتمع والأمم هوية أيضاً لها مميزاتها وقيمها ومبادئها، فإذا توافقت هوية الفرد في المجتمع الذي يعيش فيه مع هوية مجتمعه كان الأمن والراحة والإحساس بالانتماء، وإذا تصادمت الهويات كانت الأزمة والاغتراب، وهذا ما يدفع للتأكيد أن قضية الهوية في المجتمع قضية محورية حيث يُمثّل الخلاف بين الهويات، تحدياً لمفاهيم الهوية الوطنية، والتي كانت تاريخياً مصدراً لتماسك الدول، فكل جماعة أو أمة تعوزها الهوية المتميزة ليمكنها المعيشة والمحافظة على وجودها.

ما يدعو إلى استحضار هذه المقدّمة، ما أثارته انتخابات التجديد النصفي الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية قبل أيام قليلة من انقسامات حزبية واستقطابات حادة، ظهر فيها بشكلٍ جلي انتقال السباق الانتخابي من التنافس على البرامج الاقتصادية والرؤى الاجتماعية والسياسات الخارجية، إلى الصراع على حقيقة أميركا وهويتها، ففي هذه الانتخابات برز توجّه الديمقراطيون أكثر نحو الأفكار التقدمية، وركزوا في برامجهم على حقوق المثليين والاجهاض بعيداً عن هموم الناخب الأمريكي الاقتصادية، في حين تبنّى الجمهوريون أكثر السياسات انغلاقاً وتعصّباً وعنصرية وركزوا على الشق الاقتصادي ومواجهة التضخم، خصوصاً في ظل بروز الدور الواضح للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب في هذه الانتخابات، بعد أن أعلن تأييده لأكثر من 100 مرشح جمهوري متطرف في الانتخابات التمهيدية للحزب من الذين يتماهون مع مواقفه ومع نظريات المؤامرة التي يشيعها عن تزوير نتيجة الانتخابات وسرقتها منه، وكذلك مرشحي حركة (MAGA) "Make America Great Again" والتي تعني " فلنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، والتي تضم مجموعة من المرشحين الذين يتّسمون بالمحافظة والانغلاق الاجتماعي والديني.

طبعاً الجدل حول حقيقة الهوية الأمريكية والذي يتمحور حول سؤال "من نحن؟"، بدأ في الولايات المتحدة في تسعينيات القرن العشرين، وهذا الجدل كان مقتصراً على المنصات الأكاديمية والفكرية ومراكز الدراسات، ثم أخذ يتطوّر لاحقاً ليتخذ صفة سياسية وأصبح جزءاً من الجدل السياسي الأمريكي، فظهر بوضوح في خطاب السباق الانتخابي الرئاسي عام 2016 مع المرشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري آنذاك دونالد ترمب، الذي أخذ النقاش السياسي داخل الولايات المتحدة إلى موقع جديد، باغت حينها الديمقراطيين الذين احتفظوا بخطابهم التقليدي، ولم ينتبهوا إلى أن خطاب ترمب استطاع تعبئة شرائح أمريكية نائمة وغير عابئة بالسياسة، وأيقظ فيهم عصبية عرقية وحرّك لديهم مخاوف فقدان زمام المبادرة في حكم البلاد، وهذا ما أكدته الأحداث التي رافقت اقتحام أنصار ترمب لمبنى الكابيتول 6 يناير/ كانون الثاني 2021 رفضاً لنتائج الانتخابات الرئاسية التي أقصت ترمب عن البيت الأبيض لحساب جو بايدن، والتي كشفت بدورها تعاظم حالة الاستقطاب متعدد الأوجه (العرقي والديني والأيديولوجي) في الداخل الأمريكي، والذي رأى فيه فرانسيس فوكوياما في مقال نشرته مجلة الإيكونوميست التحدي الأكبر لمكانة أمريكا العالمية، فالمجتمع الأمريكي حسب فوكوياما يسوده استقطاب حاد، وهذا الاستقطاب كان قد بدأ حول قضايا السياسة التقليدية مثل الضرائب والإجهاض إلا أنّه تحوّل إلى صراع مرير حول الهوية الثقافية، وبالتالي من الصعوبة بمكان الوصول إلى إجماع على أي شيء تقريباً، وهو ما أكده أيضاً ستيفن كوك كبير الباحثين في مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا بمقال له نشر في فورين بوليسي، رأى فيه أن الانقسام الكبير الذي يعيشه المجتمع الأمريكي والذي تجلّى في الانتخابات الرئاسية عام 2020 سيقود إلى تفكك الولايات المتحدة الأمريكية بسبب ضياع الهوية، وبرأيه أن مجرد فقدان بلد ما إحساسه بهويته الوطنية يصبح تفككه القومي على الأغلب أمراً غير مستبعد.

وبالتالي ما شاهده العالم خلال هذه الانتخابات وكذلك خلال السنوات الأخيرة يظهر أن البلاد تعاني أزمة هوية تفاقمت بشكل واضح في ظل إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، وأدت إلى انقسام فعلي داخل المجتمع الأمريكي الذي يشهد ظاهرتين خطيرتين، الأولى هي الانقسام الحاد مع صعود التوجهات الأكثر حدّية وظهور التجمعات السياسية اليمينية المتطرفة، والثانية عودة التشكيك في الانتخابات وبالتالي بالديمقراطية الأمريكية، الأمر الذي يضع المجتمع الأميركي أمام حالة انقسامية غير مسبوقة ونزاع متفاقم يمكن اختزاله بنزاع الهويات المفتوح على مصراعيه بلغ من الحدة أن حجم الكراهية بين الفئات والأعراق والأيديولوجيات قد ارتفع إلى مستويات مخيفة، وجعل الأميركيين يشكّك بعضهم ببعض، وفي الانتخابات ونتائجها، وسط انتعاش نزعة الكراهية وازدياد وتيرة الاعتداءات على أفراد من شتى الأقليات، الأمر الذي انعكس سلباً على صورة أمريكا في العالم، وبين الأميركيين أنفسهم إلى حدٍّ بعيد.