ماحدث في الدورة الحالية لكأس العالم المقامة في قطر ينطوي على إشارات كثيرة تستحق التوقف عندها أهمها وأبرزها على الإطلاق هذا التداخل بين السياسة والرياضة، وهو تداخل يحدث أحيانا بشكل إيجابي مفيد، كما حدث في المصافحة "السياسية" المهمة التي تمت بين الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي، والتركي رجب طيب أردوغان خلال حفل إفتتاح البطولة، وهي مصافحة تعكس الوجه الإيجابي للرياضة بكل ما تحمله من قيم تقرب الشعوب والدول من بعضها البعض.

لكن على الجانب الآخر هناك تداخل يحدث بشكل سلبي مثل السجالات حول موضوعات شائكة مثل "مجتمع الميم" والسماح بشرب الكحوليات وتحول كرة القدم أحياناً إلى صراعات كلامية حول "الهوية" و"الأديان" وغير ذلك مع إن الرياضة لا علاقة لها بالدين وليست هناك كرة قدم "مسلمة" وأخرى "مسيحية" أو "يهودية"، ونرى اللاعبون من مختلف الأديان يلعبون في منتخب أو فريق واحد ولا شىء في ذلك، لكن الأمر يتحول أحياناً ـ كما هو حاصل على هامش البطولة الحالية ـ إلى مادة للخلاف عبر وسائل التواصل الإجتماعي وحتى عبر مقالات الرأي وعناوين الإعلام التقليدي.
بعيداً عن موقف دولة قطر بشان "مجتمع الميم"، فإن إتباع قوانين البلاد التي تنظم فيها البطولات مسألة تستحق النقاش، لأن المسألة في هذه الحالة وغيرها من حالات مماثلة، تتعلق بالسيادة الوطنية للدول، والتي تندرج من ضمنها القوانين المحلية وحتى مراعاة الشعور والذوق والأخلاقيات العامة للمجتمع، وهذه مسألة حساسة للغاية يبدو النقاش فيها كالمشي على الأشواك، لاسيما أن هناك تربص من الكثيرين لمن يكتب مؤيداً أو معارضاً ويتحول الأمر إلى فرصة للمزايدات والتشكيك والتخوين أحياناً، والاتهامات المقولبة جاهزة للتوزيع، سواء من "المتأسلمين" أو من دعاة الدفاع عن حقوق الانسان، ولا مساحة للعقلانية ورشادة الفكر بين الفريقين اللذين يتبعان نهجاً صفرياً حاداً إما "مع" أو "ضد"، ولست هنا بصدد الإنتصار لأي من الفريقين في هذه الجدلية السخيفة، ولكنني بصدد طرح النقطة الغائبة أو المغيبة في مثل هذه النقاشات العابرة للسيادة الوطنية للدول.
نعلم جميعاً أن هناك ما يعرف بالقيم المعولمة، وندرك كذلك أن هناك خيوطاً رفيعة تفصل، أو هكذا يرى الكثيرون، بين الإندماج مع هذه القيم وبين الحفاظ على الخصوصيات الثقافية الوطنية، والمسألة، برأيي، هنا قد لا يكون لها علاقة بالدين، بمعنى أننا يجب ألا نفهم معارضة سلوكيات معينة بأنها ترتبط بالتشدد الديني أو حتى بوجود تيار محافظ دينياً، وهذا موجود بالفعل ولا يمكن نفيه، ولكن يجب بموازاة ذلك، إستيعاب أن جزءاً كبيراً من رفض بعض السلوكيات والأفكار، سواء في الغرب أو الشرق، يرتبط بالقيم الثقافية المجتمعية التي ينبثق بعضها من الدين أو يتماهى معه، ويرتبط بعضها الآخر، وهذا جزءا لا يستهان به، بالثقافات والعادات والتقاليد والقيم المجتمعية السائدة والمتوارثة عبر الأجيال بغض النظر عن ارتباطها أو عدم ارتباطها بالدين.
وسط هذا الزخم، نلحظ، كباحثين، أن ثمة إشكالية جديدة تواجه موضوع السيادة الوطنية، حيث تبرز بعض النقاط الضبابية الغامضة مثل حدود الفصل بين سيادة الدولة وقوانين منظمات أو كيانات دولية مثل "الفيفا" في تنظيم البطولات. صحيح أن القبول بتنظيم أو إستضافة أي بطولة أو حتى مؤتمر دولي، هو مبدئياً قبول بكل القوانين والقواعد التي يقرها الكيان الناظم لها، ولكن يثور في معظم الأحيان جدل كبير حول بعض التفاصيل التي قد تبدو للبعض غير مهمة ولكنها تصبح "أم المشاكل" على أرض الواقع الفعلي مثل شرب الخمر والحدود "الجغرافية" لتناول الكحوليات على سبيل المثال، وهل المنع بسبب الدين أم لغرض الحفاظ على الأمن وضمان عدم حدوث فوضى تحول حدث رياضي إلى ساحة للقتال والشجار!
عموماً يصعب ضمان عدم نشوب الصراعات الهوياتية في مناسبة عالمية تنعقد في منطقة مشحونة بالجدل الهوياتي، وهذا مايفسر حديث البعض عن "أسلمة"المونديال والتركيز على كل ما هو "إسلامي" ومحاولة تحويل حدث رياضي عالمي لمناسبة "دعوية"!
دروس كثيرة يمكن إستنتاجها من هذه البطولة، فمنطقتنا، الشرق الأوسط، تخوض سباق العالمية في السنوات الأخيرة وتستكشف حدوده وسبل التعامل معه، ولكن النتائج تبدو في المجمل مرضية للغاية، فالمحصلة، بعيداً عن بعض التجاوزات، إيجابية للغاية، والاحتكاكات الهوياتية التي تحدث هي أمر طبيعي في ظل الواقع، ويمكن التعامل معها ولكن علينا ألا ننسي المكسب الأكبر وهو التفاعل الانساني الواسع في مثل هذه المناسبات.
بالأخير، لا يجب أن ننسى أن بطولة كأس العالم الحالية قد شهدت تحولات مهمة، حيث يبدو النظام العالمي الرياضي القديم في طريقه للإنهيار والتآكل، مثلما ينهار النظام العالمي القائم سياسياً واستراتيجياً، فتفوق كرة القدم السعودية على قوة كروية تقليدية كبرى مثل الأرجنتين تصنف تلقائياً ضمن قوائم المرشحين للفوز بالبطولة بغض النظر عن مستواها وأدائها الكروي الراهن، وكذلك تفوق اليابان على ألمانيا وهما حالتان متماثلتان تماماً للحالة السعودية/ الأرجنتينية، هي ـ بغض النظر عن بقية النتائج في مشوار البطولة، إشارات مهمة لنظام عالمي كروي يتشكل من جديد. وعلينا أن نتوقع مستقبلاً تلازم الصعود السياسي مع الصعود الرياضي/ الكروي، فالمملكة العربية السعودية التي يبرز نجمها إستراتيجيًا إقليمياً ودولياً، لا تتجاهل تعزيز صعودها السياسي/ الاقتصادي، بصعود ثقافي/ رياضي، يستحق الدراسة والتأمل.